الولايات المتحدة... والسطوة الإعلامية المؤثرة!

الولايات المتحدة... والسطوة الإعلامية المؤثرة!

08 يناير 2018
+ الخط -
ظل الحزن طاغياً على جو الفرح الذي رافقنا خلال الفترة التي أمضيناها في الولايات المتحدة الأميركية، وقد تكون في لحظة ما مفقودة نتيجة الأسباب غير الواضحة المعالم التي طالما تقف حجر عثرة في طريقنا، وإن كانت خفية حتى على صاحبها، وعلى الشخص الذي عانى مرارتها وقسوتها، بغض النظر عن تجليات الواقع الذي شاهدناه ولمسناه!

هنا، في كاليفورنيا التي تقع في أقصى الغرب الأميركي، حيث يثير حفيظتك محيطها المسمى بالهادئ الهادر، وفي مدينة الشمس الساحرة، لوس أنجليس، تحديدا، حيث نقيم، بعد أن قطعنا آلاف الأميال -بالطائرة- تعتريك مشاهد حالمة، ليست أفضل مما كنا قد رأيناها في مختلف الولايات والمدن الأميركية التي سبق أن زرناها، في غير مرة.

وأعتقد أنني صرت أعرف بعض الشيء عن هذه القارة الحافلة، والدنيا الهائجة المائجة، تلك القارة التي قامت على الهجرة، على الوافدين. فلا يكاد يوجد شعب في العالم القديم إلا وله جالية في هذا العالم الجديد، في مساحة تبدو وكأنها لا آخر لها، في بيئات جغرافية متفاوتة، من المدن الكبرى، إلى القرى الصغيرة، إلى الجبال المغطاة بالثلوج، إلى المساحات الشاسعة. من السهول الزراعية، إلى الصحراوات الحارة الكبرى التي تضارع صحارى آسيا وأفريقيا.

وهي مازالت دولة شابة، ليست في شيخوخة أوروبا مثلا، فهي كالمعدة الشرهة تهضم المهاجرين، وتمتص العقول من كل أنحاء العالم. وكلنا نعرف في بلادنا مشكلة هجرة العقول ويعرفها معنا العالم كله من أوروبا إلى آسيا وأفريقيا.

فالشاب الذي يذهب طالبا للعلم، وينبغ، نادرا ما يعود إلى بلده، بعكس الذاهبين إلى أوروبا مثلا، وفي أميركا يقولون إن أهم سلعة تستوردها أميركا هي العقول الأجنبية! وقد كان من المفروض أن ندرك ان أهم سلعة نفقدها هي هذه العقول ذاتها، ولكن العقول لا تجد مكانها عندنا، وقوة الجذب هناك هائلة.


ومن يخالط الأميركي العادي، يجد فيه صفات ممتازة، فهو أكثر من الأوروبي بكثير في بساطته وكرمه، وانفتاحه على الناس، وهو يقدس قيما إيجابية أهمها قيمة العمل، والعمل هو ما يميز الناس، لا الطبقة ولا الاسم ولا الأسرة، كما هو الحال في فرنسا أو إنكلترا مثلا.

وبالتالي، ليس لديه عقدة المظهرية الموجودة في أوروبا، فالأميركي أقل الناس اهتماماً بثيابه --رجلا كان أو امرأة- وأقلهم تصنعا وتكلفا.

وأميركا -كمجتمع- تتغير دائما، تعيش اليوم لا تنظر إلى الأمس أبدا، حتى التاريخ الذي نجده في المجتمعات القديمة لا وجود له هناك، "إن الفتى من يقول ها أنا ذا، ليس الفتى من يقول كان أبي"!

رجل مثل دونالد ترامب، الرئيس الحالي للولايات المتحدة، لا يمكن تصور ذلك في أي بلد في العالم -متقدما كان أو متأخر- إلا في أميركا. فهو رجل أعمال وملياردير أميركي، وشخصية تلفزيونية ومؤلف، مشهور بالجهل السياسي، لا يهم، المهم أنه يجمع الأصوات أكثر من غيره، ففرصة الربح هي الأهم، إنك تريد أن تكسب أو تخسر، غير هذا غير وارد في البال.

وحين ذهبت إلى أميركا أول مرة كانت عالم الأمان، كنت أدهش حين أرى الواقع كما رأيته في السينما! ينام الناس وبيوتهم غير مغلقة من الداخل، ويسير المرء في منتصف الليل وهو آمن، طبعا كان هناك دائما ما يسمى بالجريمة المنظمة، وهي العصابات الكبرى، ولكن هذه تهتم بالمال الكبير، ليس هدفها المواطن العادي، نمت وتضخمت كما نمت الشركات والمؤسسات وتضخمت، ولكن كل مرة يتغير شيء، إلى الأحسن أو إلى الأسوأ، ولكن المهم أن هناك تغييرا مستمرا، وكل تغير لا بد أن يكون كاسحا شاملا.

الآن صارت الجريمة الفردية في كل مكان، ولا يجوز لأحد أن يسير ومعه أكثر من خمسين دولارا، فإذا كان معك مال كثير جردوك منه، وإذا لم يكن معك مال، ضربوك من شدة غيظهم!

كانت هناك مرحلة الهدوء، والمحافظة الأخلاقية، والتدين. ثم جاءت مرحلة الاغتيالات السياسية، من جون كنيدي، إلى روبرت كنيدي، إلى مارتن لوثر كنغ. ومرحلة "الهيبيز" والإباحية المطلقة. ومرحلة ثورة الشباب على الحرب - أيام فيتنام… وحملات السلام!

وكل ظاهرة أو مرحلة كما قلت، لا تلبث أن تعم كل مكان في هذه الدولة - القارة، والسبب -في تقديري- هو السطوة الهائلة لما نسميه بوسائل الإعلام، سطوة أكثر من اللازم.

الصراع أشد من اللازم، جوانب الخير والشر على السواء، أكثر من اللازم، فهي بلد الوفرة في الرفاهية، وفي الجرائم على حد سواء. لقد عرفت أميركا الصحافة، ثم عرفت الإذاعة، ثم عرفت السينما، ثم عرفت التلفزيون.

وكما يتضخم كل شيء في أميركا، ويتجه إلى التركيز والاحتكار - رغم كل القوانين تضخمت هذه الوسائل حتى غطت تلك القارة من المحيط إلى المحيط، وصارت إمبراطوريات شامخة تجثو أمامها أي سلطة أخرى.

وفي مجال التأثير على الناس، فحدث ولا حرج، فالأميركي في أي مكان كان يجد في غرفة نومه ذلك الصندوق السحري، التلفزيون، ويجد فيه مئات القنوات التلفزيونية المختلفة، وبعضها يعمل أربعا وعشرين ساعة في اليوم دون انقطاع!

طبعا كان للصحافة نفوذها الجبار وما زال، ولكنها بالتأكيد أكثر نفوذا لدى النخبة، ثم كانت السينما بسحرها، ثم الإذاعة باتساعها، ولكن هذه الأدوات بلغت قمتها في التأثير بظهور التلفزيون، فهذا الصندوق السحري، الذي ينقل العالم إلى كل بيت، يؤثر على النخبة وعلى السواد العام دون استثناء، وهو يُسمّر المشاهد في مكانه، يستأنسه، ويروضه، بما يصبه على رأسه كل يوم وكل ساعة، من مشاهد وأحداث، وقصص، وتعليقات، وإعلانات إنه يكتسح تأثير الصحيفة، وتأثير البيت، وتأثير المدرسة، وتأثير الحزب السياسي، أو الزعيم.

ومع تعاظم فترة التلفزيون، صار يقدم للناس كل شيء، الترفيه، والإعلانات التجارية، والأحلام، والسياسة، وكل ما يمكن أن يفكر فيه المرء، فهو يحيط الفرد من كل جانب، من الجوانب الذهنية والعاطفية، والسياسية، والاجتماعية.

ما لم يحدث ويصور على التلفزيون كأنه لم يحدث قط! فأي زعيم سيجد جمهورا أكثر من عشرة آلاف مستمع؟ وما قيمة هذا إلى دقيقة واحدة يراها مائة مليون مشاهد؟

ولأن المؤسسات الإعلامية، بما فيها التلفزيون، تجارية، فقد صار هذا هو الأساس في تنافسها، وصار الزعماء السياسيون ينافسون شركات صناعة الصابون في شراء الوقت على الشاشة الصغيرة، بالدقيقة والثانية، والدقيقة ثمنها عشرات الآلاف من الدولارات.

ونحن نعرف جميعا أفلام الغرب التي نرى فيها قوافل المهاجرين، بالعربات والخيول تشق طريقها غربا، وتنتزع الأرض من سكانها الهنود الحمر، وتقيم حياته إزاء صعوبات هائلة، ونعرف أيضا أفلام الكاوبوي أو رعاة البقر، حيث لا يوجد قانون، ولكن يوجد أمران: الأول محاولة كسب الدولار بأي ثمن، والثاني أن الفوز لمن تكون يده أسرع في سحب المسدس وإطلاق النار.

إن هذه الأفلام التي تعاد مئات وآلاف المرات تؤثر في الشعب الأميركي، وهذا -طبعا- صحيح، ولكن العكس أيضا هو الأصح، والعكس هنا هو أن هذه الأفلام بالذات هي نتاج تجربة حقيقية، في تكوين الشعب الأميركي، وصدى لقيم حقيقية ما زالت كامنة فيه.

الفرد هو البداية والنهاية، ومن حق الفرد أن يصارع في سبيل نيل ما يريد، والبقاء للأقوى، الغاية هي الدولار، والوسيلة هي المسدس، البطل هو المغامر، القادر على العمل الشاق، يعتمد على نفسه فقط، وبندقيته هي وسيلته، عدوانا أو دفاعا.

وقد يدهش الناس إذا علموا أنه حتى الآن بعد كل هذه الحضارة، ما زالت إحدى أهم "جماعات الضغط" -كالصهيونية وغيرها- أولئك الذين يدافعون عن حق اقتناء السلاح لكل فرد، فعندما بدأت موجة الاغتيالات السياسية، حاول أكثر من نائب في الكونغرس أن يقدم مشروع قانون يقيد حق اقتناء السلاح، ولكن أحدا لم يتمكن من ذلك إلى الآن، وفي انتخابات الرئاسة، يهتم المرشح بكسب أصوات الناخبين بقبول الوضع الراهن، والوضع الراهن هو أنك تستطيع شراء البندقية أو المسدس حتى بواسطة البريد، وأميركا أكثر بلد يتوافر فيه السلاح في أيدي الناس!

ففي تاريخ أميركا خيط من العنف. ذلك أن تاريخ أميركا فيه ثلاث تجارب لا تنسى، وهي تترك بصمتها على الشخصية الأميركية إلى الآن..

الأولى: أن الأميركي جاء مهاجرا، وكلما شغل مكانا، زحف غربا إلى مكان جديد وفرصة أوسع، وذلك بدافع فردية شديدة، وروح مغامرة، وعدم اعتماد الفرد على شيء إلا على نفسه.

والثانية: أنه، في هذه العملية كان يبيد في طريقه شعبا آخر هو شعب الهنود الحمر أصحاب البلاد الأصليين، فهو أخذ الأرض بذراعه وسلاحه وأخذها مخضبة بالدم، وليبرر لنفسه ذلك، لا بد أن يؤمن بفكرة أن الأقوى هو صاحب الحق.

والثالثة: أنه خطف العبيد من أفريقيا، وجعلهم ملكا له -كالدواب تماما- في أميركا، أقام على أساس عبوديتهم زراعاته الواسعة، وبوصفه مالكا مطلقا لهم، فإنه ضربهم بالسياط، واستخدمهم في أشق أنواع العمل، ووضعهم في حظائر كالماشية، واغتصب نساءهم، وحكم بالإعدام على من تمرد منهم، إلى آخر ما نعرف من قصة الزنوج المأساوية، في الولايات المتحدة.

ومع ذلك، فقد هاجر هذا الأميركي من أوروبا، هربا من الاضطهادات الدينية، والفوارق الطبقية، هاجر باحثا عن عالم مثالي في حريته.

ولذلك، فالأميركي يتنازعه عاملان: عامل الدفاع عن نفسه وتبرير مسلكه، وعامل التأثر بهذا الخيط من العنف الذي لم يستأصل من نفسه بعد، وقد كان المؤرخ الأميركي عادة يقلل من هذا الجانب الكريه، ولكن كتاب التاريخ المحدثين يكشفون عنه أكثر وأكثر، على أساس أن هذه المعرفة الكاملة هي خير وسيلة للخلاص من هذه العقدة، وحتى لا يتعلم التلميذ في المدرسة غير ما يدركه بعد ذلك حين يكبر.

فحين نرى الكمية الرهيبة من الأفلام البوليسية التي تنصب على رأس المتفرج ساعات طويلة كل يوم، نجد كأنها صورة عصرية لأفلام رعاة البقر، ولكن العمارات الشاهقة بدل الغابات والجبال، والسيارات بدلاً من الخيل، ولكن الدولار هو الهدف، والمسدس هو الوسيلة، والفرد في النهاية يعتمد على نفسه أكثر مما يعتمد على البوليس والمحاكم القضائية.

الأميركي يرى أنه أقام أنجح تجربة، وها هو الدليل في الوفرة الهائلة في كل شيء، ولكنه، أقامها على أسس من الفردية المطلقة، والعنف، وقانون البقاء للأقوى، ولمن يسحب مسدسه أسرع من غيره.

والتلفزيون الساحر، المسيطر، الباحث عن الربح، يتملق أي غريزة متاحة، ويبحث عن المثير الرهيب، وبذلك يمد في عمر هذه القيم، بدل أن يستخرجها من وجدان المشاهد، ويخلصه منها.

فالأميركي العادي في حالة صدمة هائلة وحيرة بالغة، وذلك بفعل أمرين: البترول الذي جعله يشعر لأول مرة أن كل مورد له آخر، وله حدود وقيود ليست في يده تماما، وهذا غير ما تعوّده منذ هاجر إلى أميركا.

التوازن الذري.. فقد أدرك لأول مرة أن هناك قوة أخرى دولية تتعادل معه -وقد تتفوّق عليه- في السلاح الذري وقدرة التدمير، فهو لم يعد الكاوبوي الذي إذا ظهر في الشارع والمسدسان على جانبيه، ارتد الناس، ونكص الجميع عن مواجهته.

إن المواطن العربي "المهاجر" هناك، وأعتقد حتى الأميركي، يعانيان -أيضا- قسوة الحياة، ووقعها الممض، حيث يصب مصيرهما في بوتقة واحدة، بغض النظر عن طبيعة الحياة، وروتينها الممل والمقرف، وساعات العمل الطويلة، والعمل، كما قلنا، هو الهدف، بالتالي، ومن يقضِ يومه بدونه فمصيره بالتأكيد مذل، ومجهول، ولا يعرف مستساغه إلا من يعانيه!

وقد نكون إلى حد ما متخلفين عنهم في ركب الحضارة، والإمكانات الضخمة التي يحق لهم أن يتباهون بها، إلا أن تميزنا عنهم في جانب، وجانب كبير، هذا يدفعنا إلى أن نقبل بالواقع الذي نعيشه بينهم تحت ضغوطات مادية لا أكثر، ولولا الدولار، الذي به يتغنون، وهذا من حقهم، واحترامهم الزائد الذي يبدونه لأي شخص كان، بغض النظر عن هويته، وعرقه.

بلاد العم سام، تظل نضرة، ومتميزة، وإن غلب عليها الأسى، كما تراءى لي من خلال لقائي بالشباب العرب المقيمين فيها منذ وقت طويل بقصد العمل، إلا أنها تحدرت من بعض الإيهام الذي يوليه الكثير من أبنائنا لأبناء هذه القارة الآخذة بالتطور والتقدم عاما بعد آخر!

6C73D0E8-31A0-485A-A043-A37542D775D9
عبد الكريم البليخ
صحافي من مواليد مدينة الرقّة السوريّة. حصل على شهادة جامعيَّة في كلية الحقوق من جامعة بيروت العربية. عمل في الصحافة الرياضية. واستمرّ كهاوي ومحترف في كتابة المواد التي تتعلق بالتراث والأدب والتحقيقات الصحفية.