عن المثقف ودوره

عن المثقف ودوره

07 يونيو 2017
+ الخط -
إن مفهوم المثقف من المفاهيم التي تم تناولها وشرحها غير مرة، ومن زوايا مختلفة، وبأزمنة متنوعة، ويبدو أنه من الضروري طرحها مجدداً، ونخص هنا المثقف المفكر والباحث لا المتلقي.

إن المثقف والثقافة، لغةً، مشتقان من مادة "ثقف"، وتدل على عدَّة معانٍ، منها: الحذق، وسرعة الفهم، والفطنة، والذكاء، وسرعة التعلُّم، ويبدو ومن البداية أن تعريف المثقف، اعتماداً على اللغة لا يتضمن عدد الكتب التي قرأها.

ويبدو الذكاء من أهم صفات المثقف المفكر؛ لأنه سيساعده على إمكانية إيصال أفكاره والتأثير في آراء من هم حوله بطريقة إيجابية، وجاذبة، بعيداً عن التهكم، أو التعالي، أو الأيديولوجيا المقيتة بشكل خاص.

والذكاء المقصود هو إعمال العقل الفعال لكسب الانتباه، والتأييد، ولتوجيه العقول الأخرى نحو ما هو مطلوب طرحه من أفكارٍ أو قضايا.

وأذكر هنا أنني قرأت أنه ومع صعود الفاشية في إيطاليا، وأثناء محاكمة المفكر غرامشي أن المدعي العام في دولة موسوليني قال: "يجب أن نوقف هذا الدماغ عن العمل لمدة عشرين عاماً"، ولا تثير الاستغراب هذه المقولة للمدعي العام، لأننا نُدرك خطورة المثقف الحقيقي، الذي يمتلك ناصية الحقيقة، ويستطيع إيصالها للآخرين.

ويبدو المثقف دائماً ذلك المبدع الذي يمتلك نهجاً فكرياً يستطيع من خلاله بث أفكاره وطرحها، معتمداً محاكمة عقلانية منطقية لكل ما تتم مناقشته.

فالثقافة، ونكرر، هنا لا تقاس بكم الكتب التي قرأتها، أو عدد المؤتمرات والندوات التي شاركت بها، ولا هي عدد الشهادات التي تمكنت من الحصول عليها؛ الثقافة هي إمكانية العبور لعقل الآخر، والقدرة على مشاركته أهم القضايا التي تشغله، والمثقف الحق هو من يعيش الواقع، ويكون قادراً على تحليله، وطرح الحلول الممكنة، ومناقشتها مع شرائح كبيرة في المجتمع.

وفي عودة لـغرامشي، وقراءة لتعريفه للمثقف، فإنه يرفض تماماً التقسيم الشائع للمجتمع والعاملين فيه كفئتين: "العمالة اليدوية والعمالة الفكرية"؛ فكل عمل يدوي يتطلب حداً أدنى من النشاط الفكري، ويربط غرامشي المثقف بطبقة هو عضو في جسدها. ويستنكر غرامشي الحديث عن "لا مثقفين"، لأنه لا وجود لهم. لأن الإنسان مهما كانت المهنة التي يعمل بها، فهو يمارس نوعاً من النشاط الثقافي. وحين يتحدث عن المثقف فهو يرى أنه يؤدي وظيفة محددة؛ تتمثل في تحقيق تصور للعالم أو الطبقة التي يربتط بها عضوياً، وأن يجعل هذا التصور يطابق الوظيفة الموضوعية لتلك الطبقة في وضع تاريخي معين، كما تكمن وظيفته أيضاً في الجانب النقدي من نشاطه الفكري، الذي يحرر تلك الإيديولوجيات من الأفكار السابقة لظهورها.

لقد كان غرامشي محقاً فليس بيننا من لا يفكر، بشكل أو آخر، ولكن بيننا الكثير من ينكر على الآخرين حرية تفكيرهم، أو يفترض عدم جوازها، وكأن التفكير ملكة خاصة بفئة دون غيرها، ولعل غرامشي المفكر الأكثر واقعية، حين قدم مفهوم المثقف العضوي المنتمي للمجتمع الذي يعيش فيه، والذي يحاول نقد هذا المجتمع بأفكار جريئة، متجاوزاً أخطاء من سبقه، وعارضاً مشروعه دون تعالٍ أو خوف. 

وربما هذا يذكرنا ببعض المثقفين المفكرين العرب المعاصرين الذين يطرحون قضايا منفصلة عن واقعهم ومجتمعهم، وكأن المثقف يسكن كوكباً آخر، وعلينا نحن العوام أن نرتقي لسمو أفكاره، في الوقت الذي عجز فيه ذلك المثقف عن التعايش مع وسطه، وتحليل واقعه، وطرح القضايا التي تخص هذا الواقع، وتثير اهتمام الجميع فيه.

ولذلك نجد أنفسنا في القرن الحادي والعشرين لا زلنا نجتر هموماً وقضايا ماضية، وربما سطحية ولم تعد تناسب تطور العالم المعاصر، والتحديات الكثيرة التي يطرحها.

8208D0E6-2CD2-427A-A70D-51834F423856
يسرى وجيه السعيد

حاصلة على دكتوراه في فلسفة العلم من جامعة دمشق. ومدرسة سابقة، في قسم الفلسفة بجامعة حلب.