مؤانسات رمضانية (1) يرحم أباكا الذي كان يذبح الدياكا

مؤانسات رمضانية (1) يرحم أباكا الذي كان يذبح الدياكا

27 مايو 2017
+ الخط -
جاءني أبو نزار المفلسف قلقاً مكفهر الوجه وقال لي:
- أنا في هذا الرمضان سوف أموت من الجوع، والله أعلم!
قلت بحمية: ما عاش الجوع يا أبو نزار. ولكن قل لي، كيف تنبأت لنفسك بهذا الحال المأساوي؟
قال: الشغلة تؤخذ بالعقل يا أبو المراديس، فلقد شبعتُ اللقمة الطيبة في رمضان الفائت، ومن دون أية مبالغة وزنت نفسي قبل رمضان بيوم، وبعد عيد الفطر السعيد، وإذا بوزني قد زاد في حدود الرطلين، وكلها من أيش؟ في كل يوم كان واحد من النشامى يعد عشاء إفطار يلعب عليه الخَيّال، ويدعونا إليه. صح؟
قلت: صح.
قال: ولكن الأصدقاء لا ينوون تكرار تجربة السنة الماضية على ما يبدو. وفي هذا خسارة كبيرة للمجتمع (وضحك).
قلت: كيف؟
قال: كنا نحن، المدعوين نأكل ما يقع تحت أيدينا من أطعمة، أولاً بأول، مثل الحَصَّادة.. ولكن تصور، لو أن صاحب الوليمة أكل كل هذا الدسم، والفواكه والحلويات في بيته والباب مغلق عليه، ثم ضرب بخارُ الطعام على مخيخه، فنعس ونام من دون أن يتحرك أو يضحك أو يأخذ ويعطي مع الساهرين السامرين ما الذي يتوقع أن يحل به؟
قلت: ماذا؟
قال: حدثني الأستاذ عبود، وهو الذكي الفهمان المتعلم الوحيد في قريتنا، أنه قرأ في كتاب "البخلاء" للجاحظ حكاية طريفة يروي فيها، أنه ومجموعة من أصدقائه كانوا ينصبون الكمائن لبخيل أسطوري، ويترصدون له من مكان إلى آخر، ويحاولون أن يجعلوا وجهه يحمر خجلاً، وأن تدب النخوة العروبية في رأسه، عسى ولعل أن يقول لهم: "تفضلوا عندي فنصيب مما قسم الله". ولكن البخيل كانت تنطبق عليه أغنية المذكورة بالخير "طروب" التي كانت تغني بـ (الترك– أراب): جوق بحبك جوق- وأنت خبر يـوق.. وتعني (أحبك كثيراً، ولكن أخبارك معدومة)!

قلت: كانوا ينفخون في قربة مقطوعة.
قال: نعم، ولكن ربك سبحانه وتعالى لديه حكم لا يرتقي فهمُنا نحن أبناء آدم إلى مستوى إدراكها، فأذن للجاحظ وصحبه بالفرج، إذ ألهم ذلك البخيل على أن يطري يده ووجهه ويقول للشباب:
- أهلا وسهلاً بكم، على الرحب والسعة، تفضلوا عندي غداً على العشاء!
قلت: جيد.
قال: هو جيد بالفعل، ولكن الرجل البخيل ارتكب، بهذا، أكبر غلط في حياته، وكأن خبرته الطويلة في البخل لم تكن قط، فالمفروض به أن يدعوهم على نحو مفاجئ قائلاً: "تفضلوا معي الآن" لأن الإنسان، عند الدعوة المفاجئة، ربما يكون غير جائع تماماً، فيأكل لقمتين أو ثلاثاً ويرجع إلى الوراء.. أما وأنهم عرفوا بالدعوة قبل يوم كامل، ويعرفون أنه بخيل، وطعامه عزيز، فقد صاموا، مع أن الوقت لم يكن رمضان، ثم ذهبوا إليه، فجاء بالطعام فأكلوه، وأكلوا ما بعده، وحسناً فعل هو، إذ كان يبتعد من طريقهم حذراً، فلو أنه مر بجوارهم لأكلوه!
الحكمة من هذه القصة هو ما قاله الجاحظ في ما بعد تعقيباً على الحكاية، وهو: "والله ما ساعدنا على هضم ذلكم الطعام كله إلا الضحك"!
قلت: حتى الآن، يا أبو نزار لم أفهم إلى أي شيء ترمي من وراء هذه الحكاية.
قال: هذا مع أن عهدي بك ذكي ولماح. فبما أننا كنا نأكل ما لا يحسب الحاسب في كل مسوية من مسويات شهر رمضان الفائت، وبما أنني كنت أدعى إلى المسويات بوصفي "ضيف شرف" مختصاً بإنشاء الضحك الذي يساعد على الهضم، وبما أن الشباب ينوون ألا يكرروا التجربة هذه السنة، فهذا يعني أنني سأضطر إلى تناول نفس الطعام الذي ستتناوله أسرتي، وسوف أجوع حتماً!

قلت مُمَاحكاً: غريبة منك يا أبا نزار، وهل سيبقى أولادك من دون طعام نهائياً؟
قال: بل سيأكلون، ولكنني خير من يعرف مم يتألف طعامهم: إنه برغليات وباذنجانيات وأخباز وأبصال وأعداس لا تُسمن ولا تغني من جوع، وأنا شخصياً كلما جلست إلى سفرتي أتذكر حكاية الضيف الذي نزل عند رجل ثلاثة أيام فكان يقدم له نسخة طبق الأصل عن طعام أسرتي، فحاول الضيف بعث النخوة فيه قائلاً بطريقة الشعر:
يرحم أباكـــــا- شقد كان يذبح دياكا
فرد عليه الضيف معارضاً:
أبصــلْ وأعـــدسْ- وارفع ذهنك من ذاكا
قلت: والعمل الآن؟
قال لي: ها قد أنذرتك وأطلعتك على حالتي، فاذهب إليهم وأقنعهم بالعودة إلى السهر والسمر، وإلا فأخوك أبو نزار جائع لا محالة!

(يعود تاريخ هذه الحكايات إلى ما قبل ربع قرن من الزمان)

دلالات

خطيب بدلة
خطيب بدلة
قاص وسيناريست وصحفي سوري، له 22 كتاباً مطبوعاً وأعمال تلفزيونية وإذاعية عديدة؛ المشرف على مدوّنة " إمتاع ومؤانسة"... كما يعرف بنفسه: كاتب عادي، يسعى، منذ أربعين عاماً، أن يكتسب شيئاً من الأهمية. أصدر، لأجل ذلك كتباً، وألف تمثيليات تلفزيونية وإذاعية، وكتب المئات من المقالات الصحفية، دون جدوى...