الضادُ بين الواقِعِ والمأمول

الضادُ بين الواقِعِ والمأمول

25 فبراير 2017
+ الخط -
لا يُبدِعُ الإنسانُ خارجَ لُغتِه، وإن غالبَ الواقعَ تهاوى ولم يقوَ على المداومة. كما أنه يشعرُ بمرارةِ التبعيةِ والمهانةِ التي لا فِكاكَ منها إلا بالعودةِ إلى رحابِ لغته والاغترافِ من مَائِها القَراح ومِسكِها الفَواح. ولا يُمكِنُ لِعاقلٍ أن يُنكِرَ ما تُعانيه الضادُ في عصرنا الحالي من تهميشٍ مؤسِفٍ على أيدي أبنائِها في شتى أصقاعِ الأرض، فباتت تُطِلُ على ألسُنِ السوادِ الأعظمِ منهم على استحياءٍ شديد، وينطِقُ بها المرءُ على عُجالةٍ ومن وراءِ حجابٍ حتى لا يُشارَ إليه بالتردي في غياهبِ الماضي السحيقِ والانفصالِ عن العصرِ الحديثِ الذي أضحى التعبيرُ فيه بغيرِ الضادِ سِمةً من سِماتِ النُخبة ومن على شاكِلتِهم ممن يتطلعون لمراقي الكمال، بينما الحديثُ بالعربية قاصِرٌ على من لا باعَ لهم في مواكبةِ ركبِ النهضةِ والعلم، ومن لم يقطعوا شوطًا في طريقِ الحضارةِ ولا يزالون يرسِفون في أغلال الماضي المُظلِم.

يَنقلنا هذا على جَناحِ السُرعةِ إلى الموقفِ الذي تَبنَاه نُخبةُ الأمس، وعلى رأسهم قاسم أمين وسلامة موسى وفرح أنطوان وغيرهم، حيثُ سعوا سعيًا حثيثًا لنزعِ الحركاتِ الإعرابية عن اللغة، تزامُنًا وتناغُمًا مع دعوتهِم لنزعِ حجابِ المرأة، أراد هؤلاءِ أن يُجرِدوا الضادَ من حِجَابِها! وهو مطلبٌ غريبٌ مُغرِقٌ في العجب، بَيدَ أن هذا العجبَ سُرْعان ما يزول إذا ما أدركنا أنه ثمرةٌ مُرَّة من ثمارِ التبعيةِ والتغريبِ المتعصبِ الأعمى. وللموازنةِ بين ما يرمي إليه هؤلاءِ وبين ما ينبغي أن يكون فقد مرَّ على بن أبي طالبٍ، كرم الله وجهه، على رجلٍ يقرأُ القرآنَ فقال له: أتُحسِنُ العربيةَ؟ قال: لا، فقال علي: هلكْتَ وأهلكت. 

وربما يتوهمُ البعض أن الدعوةَ للتعبيرِ بالضادِ في مجالِسِنا ومنازِلِنا هي دعوةٌ للدخولِ في كهفٍ مُظلِم، وأنها دعوةٌ للحديث بلسانِ أبي علقمة ومن يدورُ في فلكِه من المُتقعِرِين والمُتكلِفِين مما يجعلها لغةً مستغلقة على الأفهام، ولا تُناسبُ الإيقاعَ المتسارعِ للعصر الذي نحياه، فضلًا عن كونها عاجزة عن اللِحاقِ بغيرها في مناحي الحياةِ المتنوعة، ومن ثمّ فإن تَحَوُّلَ الاهتمام عن الضادِ أمرٌ لا غضاضةَ فيه ما دامت مغلولةَ الأيدي حِيالَ واقعنا الحديث ولا حيلةَ لها في هذا السباق. ويستدلُ هذا الفريق على أن المجالاتِ الحديثةَ في الإدارة والمبيعات والتسويق والعلاقات العامة وغيرها تَرْكَنُ إلى منهلٍ لا يَنْضَبُ في اللغات الأخرى بينما لا يجدونَ بُغيتَهم في الضاد. وهذا الفهمُ يحتاجُ إلى تنقيح حيثُ إن قعودَنا عن مهامِنا تِجاهَ لُغتِنا لا يَقدَحُ فيها، وإنما يشيرُ إلى فتورِ الهمةِ وتوسيعِ قاعدةِ التواكُلِ وغيابِ موضوعيةِ تناول المسألة. 

إن تعلُّم الضاد ليس من قبيلِ الكماليات أو أحد جوانب الترفيه، بينما يمثلُ مصيرَ أمةٍ بأسرِها. وأتساءلُ بهدوء: أيهما أصعبُ علينا إيقاظ لُغةِ من سُباتِها أم إحياء لغةٍ مَوَات؟! لقد قامَ اليهودُ بإحياء لغتِهم من الموت، فحين وضعت أميركا دستورها الحديث عام 1974 تقدَّم اليهود بطلب للكونغرس الأميركي يطالبون فيه بإعفائهم من الدراسة في المدارس العامة، وأن يكتفوا بالدراسة في المدارس اليهودية بدعوى الحفاظ على اللغة العبرية والهُوية اليهودية، فقوبِلَ طلبُهم بالرفضِ مما دفعهم للرضوخِ للأمر، ولكنهم أسسوا مدارسَ لتدريس العبرية يومي العطلة الأسبوعية، وهو ما ساعدهم على احتفاظهم بالعبرية.

قوة الحصيلة اللغوية

مَنْ لا يتجدد يتبدد، والماء يَفْسَد بالركود ويطيبُ بالجريان، والتاجر الذي يسعى إلى تنويع أصناف تجارته التي يقتات منها يسعد، بينما التاجر الذي يتجمد في مكانه ولا يطوِّر من سلعته تراه كاسف البال، بضاعته مزجاة وحاله يرثى لها. واللغة سجل الإنجاز الثقافي للبشرية جمعاء، وهي الهوية وأداة التفكير ووعاء الثقافة ووسيلة التعبير، والكلمة وحدة بناء اللغة مما يوجب العناية بالكلمات والتجديد فيها بشكلٍ يساعد الشخص على التطوّر والنجاح.

هَبْ أن الكلمات التي تنطق بها كالثوب الذي ترتديه الآن، ثم سل نفسك: كم مرة في اليوم أقوم بمراقبة مظهري وأعتني به؟! ثم تخيل أن الكلمات التي تستعملها وقد بدا الكثير منها كالثياب البالية؛ عندها ستقرر فورًا أن تستبدلها لتحافظ على مظهرك. وسأرشدك لطريقةٍ مناسبة لذلك في السطور القليلة القادمة. أيضًا تذكر أن الإنسان العادي يستخدم 3000 لفظة يعبر بها عما يدور حوله طيلة حياته؛ وأن تحدث الشخص الطبيعي في الدقيقة الواحدة يتراوح ما بين 120 – 250 كلمة في الدقيقة. بتقسيم العدد الكلي لكلمات الشخص العادي على معدل الكلمات في الدقيقة يتضح لك أن الشخص العادي يتحدث بنفس الكلمات كل 12 – 25 دقيقة، وهذا أمر غاية في الرتابة ومدعاة لنفور الآخرين منه ببساطةٍ شديدة لأنه مُمِل، لا يجدد من قاموسه اللغوي ولا يهتم بحصيلته اللغوية التي لا تقل في أهميتها عن ثوبه ومظهره.

إذا عرضت على نفسك الآن أحد المتحدثين الأفذاذ -فكّر في أحدهم لبرهة- ستجد أنه يتوسع في إثراء حصيلته اللغوية بشكلٍ مطرد، لا يسأم الناس الجلوس بين يديه والاستماع إليه؛ لأنه امتلك جاذبيةً آسرة استرعت الأفئدة والأسماع. وكلما كانت الحصيلة اللغوية للشخص واسعة الثراء، كان تأثيره في الآخرين أقوى وأجدى؛ ذلك أنه يستخدم الكلمات المعبرة دون تكرارٍ أو إِملال. وقد يُطِل في رأسِك سوالٌ مفاده: لقد قضى النحو على آمالي في التزود من كنوز الضاد! وحينها أقول لك بصدق: لقد أبعدت النُّجعة يا أخيَّ، فإن سيبويه والكسائي قد لحنا، ولو أنهما تركا حبل الضاد على غاربه لما طبَق صيتهما الآفاق. فلا تتذرع بصعوبة النحو، ولا تترَّس بكثرة انشغالك عن تحسين مستواك في اللغة العربية مهما كان.

ولعلك تُتمتم: كُلُّ ما سبق تنظير، فأين الجانب التطبيقي لامتلاك حصيلةٍ لغويةٍ تنهض بي؟! والجواب يا رعاك الله! احتفظ بورقةٍ وقلم معك في كل وقت حتى بالقرب من سريرك، وكلما استمعت إلى كلمةٍ جديدةٍ قم بتدوينها، ثم كررها مرارًا لترسلها لعقلك الباطن. أتْبِع ذلك بتوظيف هذه الكلمة في أقرب فرصةٍ تسنحُ لك. قم بهذا التمرين باستمرار، والتقط الكلمات الجديدة من الصحف، ومواقع التواصل الاجتماعي، والمذياع، والتلفاز، ومن بيئة العمل، وغيرها. هذا يرتقي بمستوى حصيلتك اللغوية على نحوٍ لافتٍ للأنظار وخلال فترةٍ قياسية ما دمت تواظب على ذلك. كما أنك تلحظ استعمالك لبعض الكلمات بنمطٍ تكراريٍ مزعج والتي تُعرف علميًا "اللازمة الكلامية" -لنعترف بذلك- وهنا أنت مُطالَب بحصر هذه الكلمات، ثم التنقيب عن مرادفات لها، واستعمال مرادفات الكلمات التي تشكو منها، وبالتمرين ستجد أنك قد أجهزت على اللازمة الكلامية. إن تَلَكَّأتَ بدعوى وجود أحد عيوب الكلام تُنغِّصُ عليك الأمر؛ فتذكر أن واصل بن عطاء كان يعاني مما تعاني منه، ولإصراره استبعد الراء من كلامه، وقد برع في ذلك بمساعدة الحصيلة اللغوية التي اجتهد في جمعها. يمكنك المشاركة في المناقشات الحرة، والمناظرات الهادئة الهادفة، والندوات الحوارية، والمطالعة، وغيرها؛ لامتلاك حصيلة لغوية وافرة.