نبيه الأهبل يغادر المؤسسة التعليمية

نبيه الأهبل يغادر المؤسسة التعليمية

18 فبراير 2017
+ الخط -

كان معلمو المدارس في تلك الأيام القديمة يتباهون بما يكنه لهم تلامذتهم من احترام وتبجيل، فالتلميذ إذا رأى أستاذه، مجرد رؤية، ضمن حدود سور المدرسة، سرعان ما "يُخَشِّب"، على حد تعبير الكاتب الفلسطيني الفذ، إميل حبيبي، ويصاب بداء الرَجَّافة، وإذا ازداد سوء طالعه عن الحدود الوسطى وسأله الأستاذ سؤالاً ما، تراه يتأتئ ويفأفئ و"يُخَنِّق وينتّع" مثل موتور سيارة تمشي بالبنزين المغشوش.

وأما إذا كان التلميذ سارحاً، بعد دوامه، في ساحة الحارة، أو على البيدر، منخرطاً في لعبة الدحل، أو "الحَاح"ْ، أو "الهنكدار"، أو الحَجْلة، ورأى أستاذه قادماً من بعيد فإنه يترك كل شيء في مكانه ويعلِّق قدميه بأذنيه، ويجري دون أن يلتفت إلى الوراء حتى يصل البيت خائفاً، قلقاً، متوجساً مثل القط الذي غافَلَ صاحبه ولحسَ اللبن الرائب!

وفي اليوم التالي، حينما يجلس على مقعد الدرس، يسعى جاهداً ألا تلتقي عيناه بعيني الأستاذ، خشية أن يجد فيهما شيئاً ما يحل الركبتين من اللوم والتوبيخ على ما رآه منه نهار الأمس.

هذا الكلام عن الحالة الاستبدادية، التي كان يمارسها المعلمون على التلاميذ، وكانوا يسمونها، جرياً على عادة العرب في تسمية الأشياء بعكس دلالاتها: احتراماً وتبجيلاً، هو تقريباً ملخص ما قاله مدير المدرسة ومعلموها للسيد أبي أحمد والد الطفل المزعج "نبيه" حينما حضر إلى المدرسة بناء على طلب الإدارة.

وتابع المدير يقول له ما معناه إن ابنه نبيهاً لا يكتفي بأنه لا يحترم أساتذته، بل إن شخصيته تجاههم عدوانية شرسة، ولولا لطفُ الله لكان شجَّ رأس المدير شخصياً بحقيبته التنكية ذات الحواف المدببة.

وتدخل معلم الصف الأول، مقاطعاً كلام المدير، قائلاً باندفاع:

- لو أن الأمر وقف عند شج ابنك رؤوس زملائه وجباههم بحقيبته التنكية لهان الأمر، ولاعتبرناها طفرة تحدث مرة في العمر، ثم تُفْطَمُ لتصبح، كما يقولون في الكلام الدارج، فاطمة بنت فطوم! ولكن ابنك، الله يحفظه لك ولوالدته من شر النفاثات في العقد ومن شر حاسد إذا حسد، ما انفك، منذ مطلع السنة الدراسية وحتى هذه اللحظة، يلكز أحد زملائه في صدغه، ويدغدغ خاصرتي آخر مسبباً له ضحكاً في غير أوانه، أو يدوس، بقدمه التي تشبه الشختورة، بغتة ودون سابق إنذار، على قدم زميل ثالث مما يجعله يصيح بالمقلوب.
وأنا شخصياً ضبطته متلبساً بالجرم المشهود ذات مرة وهو يشد سبابته بإبهامه ويفلتها على صيوان أذن أحد زملائه من الخلف، فيطير صوابه. وفي مرة ثانية، ضبطته وقد وضع قشرة برتقالة تحت قدم زميل له راكض في الممر، ثم أعطاه دفعة من الخلف، فتزحلق المسكين ووقع على بطنه وسبح على البلاط أكثر من عشرة أمتار، وقد غاب ذلك المسكين عن المدرسة أكثر من أسبوعين حتى شفيت رضوضه وكدماته. وضبطته في مرة ثالثة، وقد اقتلع باب الصف وأسنده على الجدار في ممر الطابق الأرضي، ثم استوقف التلاميذَ الخارجين من الصفوف المندفعين نحو الباحة لتمضية الفرصة، قائلاً لهم بأنه يريد أن يشرح لهم درساً في كيفية رعي الماعز، والضرب بـ المقلاع، ودق الهبرة في جرن  الكبة. وفي مرة رابعة ضبطته،...   

توقف المعلم عن الشرح لحظة، ويبدو أنه وجد أن لا ضرورة للإكثار من الأمثلة، وأشار بيده عبر نافذة الإدارة إلى حيث توجد مجموعة من الحمير الشاردة تركض على البيدر وتابع يقول:

- هذا مع العلم بأنه لو كان بإمكان أي واحد من تلك الجحاش الداشرة الراكضة على البيدر أن يُحَصِّل شيئاً من العلم، لكان في إمكان ولدكم أن يحصل شيئاً من العلم، مثله!

قال أبو أحمد، المغلوب على أمره، وقد اكتشف في تلك اللحظة أن ابنه المهبول "نبيه" قد دخل مرحلة جديدة من حياته، وهي مرحلة المشاكل التي ستنعكس بقوة عليه وعلى باقي أسرته من الآن فصاعداً:

- طيب أستاذ، ممكن أعرف أين هو الآن؟    

فطلب المدير من الآذن أن يذهب إلى الغرفة الأخرى ويطلب من الشرطيين اللذين يحتجزانه أن يُحضراه إلى الإدارة، فلما وصل ناول المدير إضبارة نبيه للعم أبي أحمد، وقال له:

- رح يا عمي! الله يجبر مصيبتك!

وفجأة التفت نبيه نحو المدير وقال له وهو يشير إلى الحقيبة التنكية ذات الحواف المدببة، التي استخدمها في شجّ رؤوس زملائه معتقداً أنها كاميرا:

- قبلما نتيسر، تعال أستاذ، خليني أطق لك صورة تذكارية!



خطيب بدلة
خطيب بدلة
قاص وسيناريست وصحفي سوري، له 22 كتاباً مطبوعاً وأعمال تلفزيونية وإذاعية عديدة؛ المشرف على مدوّنة " إمتاع ومؤانسة"... كما يعرف بنفسه: كاتب عادي، يسعى، منذ أربعين عاماً، أن يكتسب شيئاً من الأهمية. أصدر، لأجل ذلك كتباً، وألف تمثيليات تلفزيونية وإذاعية، وكتب المئات من المقالات الصحفية، دون جدوى...