كذبة "القدس لنا": ضوء أخضر عربي لترامب

كذبة "القدس لنا": ضوء أخضر عربي لترامب

07 ديسمبر 2017
+ الخط -
ليس للمرء في سياق انحدار الواقع العربي إلى مستويات اعتبار العدو صديقا، والاستنجاد به مهما كان الثمن المدفوع، سياسي - دبلوماسي، واقتصادي - استثماري، وكيّ الوعي الشعبي باعتبار التطبيع فضيلة والوقوف مع الفلسطينيين صداعا يحل بـ"المال والتهديد"، خيارات كثيرة خارج ربط الآني بما مهدت له سياسات الأنظمة، ونخبها في ذلك الفلك.

في الوقت الذي ذهب فيه ترامب قراره بالقدس المحتلة تخرج نيويورك تايمز بتقرير يكشف كذبة محاربة الفساد بدفع أمير سعودي مقرب من "محارب الفساد" حوالي نصف مليار دولار ثمناً للوحة سالفاتور موندي (مخلص العالم).

قد يظن أصحاب العقل المازوشي، بعبادة الحاكم، أن الإشارة تنم عن "حسد". المعضلة ليست فيما إذا كانت الصورة حلالا أم حراما، ذلك نقاش آخر يكشف عمق أزمة الهوية والعقل العربيين في حياة التمويه والازدواجية، في قمة الانتهازية والنفاق المسطر لحياتنا.

القصة ببساطة شديدة أعمق من "الحلال والحرام" في التصاوير. والصمت هنا كارثة تحل حتى بالمتدينين في هذه الأمة، مع كامل الاحترام. فمن يقبل الدفاع عن حاكم يركل عقيدته بقدم قذرة سيجد نفسه عاريا أمام كل افتراءات خرافة الآخر عن القدس المحتلة.


كيف لا وقد جاء ترامب يقايض حمايتهم بمليارات "العمل"؟ أيضا، القصة تعني نخبا تطأطئ أما روايات الدائرين، ومنهم "مثقفو المازوشية" في فلك الحكام عن "الأقصى الآخر المزعوم".

وحيث يدري أو لا يدري يذهب بعض "مثقفي التنوير" إلى مناكفة تنسف تاريخ فلسطين نكاية بالإسلاميين، وبعض أدعياء "حماية مقدسات المسلمين" يحتفون بخزعبلات ثقافة هابطة باسم "نشر تسامح العلمانية".

الأثمان ها هي بدأت تتكشف. منذ عقود كان السؤال عن موقف عربي من القدس، وفلسطين كلها، تجيء أجوبته على صفحات جرائد الأنظمة، وميكرفونات المزايدة، ولا فرق في زمننا التائه بين "التقدمية" و"الرجعية".

في الأولى، كان لانتشار الديكتاتورية والاستبداد والنهب وطحالب الفساد والكومبرادورية تعليلاته بجملة "أعطينا دم قلبنا لفلسطين". في الواقع، هي جملة كانت تهدم علاقة الإنسان البسيط بفلسطين. فباسمها مورست الموبقات بحقه. ولعل خطاب ناطق باسم الحوثي على "قناة الجزيرة"، يوم مقتل علي عبد الله صالح، يكشف أيضا الوجه الآخر للمتاجرة بفلسطين، إذا قال محمد البخيتي حرفيا: "نحن (حركة أنصار الله الحوثية) نُحارب لأننا نحمل لواء فلسطين".

العجيب أن لازمة الموت لإسرائيل وأميركا لم تصب بخدش أحداً من الاثنين، فيما القصف والقمع يصيب اليمنيين. أضف إلى ذلك لازمة أخرى ظلت ماثلة منذ أن صارت بوصلة القدس في مدن سورية: فالمؤامرة الكونية بسبب الموقف من فلسطين. ويا للعجب هذه الأيام تحمل ذكرى كنس مخيم اليرموك من شعبه الفلسطيني.

في معسكر "الرجعية" لم يكن يوما لجردة الحساب في الجريدة؛ كم دفع ولي الأمر (وكأنه يدفع من جيبه) من معونة للفلسطينيين. ولازمة "التمنين" تذكر الفلسطينيين بتحول بعض العرب، ومنهم دول كبيرة، إلى وسطاء بينهم وبين الاحتلال.

ما يعنينا اليوم أن يقف بسطاء العرب وقفة تراجع كل الأكاذيب التي سيقت طيلة عقود عن دعم القضية الفلسطينية. وبجردة بسيطة يمكن اكتشاف أسباب كثيرة للانهيار العربي. لا دخل للحسد في شراء لوحة بنصف مليار دولار. لكن، لو أن نصف المبلغ ذهب إلى دعم المقدسيين في وجه الاقتلاع الصهيوني لهم، لكان الوضع غير ما هو اليوم.

ولو أن سؤالا عربيا طرح، في فراغ الانهيار الماثل، عن بوصلة العدو، وسياسات النفخ في روح الاستبداد كملاذ لتشابه الأنظمة، لكن أمام حالة ترامبية أخرى، تحسب حسابا لموقف عربي، كذب بعض الفلسطينيين حوله. فمن  ينفي أن الأمير، المنشغل بتثبيت أركان حكمه، يعرف الفرق بين أبو ديس والقدس، يمارس سياسة لا تمت للحقوق والثبات بصلة.

قراءة السياسة العربية الحالية بمعزل عن مسلسل طويل من الانهيارات هي ظالمة جدا. فليومنا هذا ما يزال بعضهم يسوّق فكرة أن "إسرائيل صديقة" ويمكن أن تحميه. في الواقع هذا الكيان معروف عنه أنه حتى العملاء يعصرهم ثم يبصقهم.

أخيرا، لو أن ترامب، وبالمناسبة كل ترامبيي الغرب والشرق الذين توقعناهم منذ عامين، يقيمون وزنا لهذه الأنظمة، في العالمين العربي والإسلامي، لكانت لوحة الفضيحة أقل وطأة مما تظهر عليه. وإذا كان الشعار "القدس ليست فقط للفلسطينيين" يعبر عن حقيقة فإن السنوات والأشهر الأخيرة كشفت عن حالة حقيقية هُمس بها منذ أثناء وبعد نكبة 1948.. مستعاضا عنها بالصراخ عن الحق.. فلا الصراخ حرر شبرا.. ولا الجعجعة صنعت أثرا عربيا في السياسة الدولية.. وطالما استمرت البوصلة العربية، كما شهدناها في قمة مجلس التعاون الخليجي أخيرا، بصبيانية فليبشر العرب بمزيد من صفرية المكانة.. وتعاظم مكانة المهانة.. ولا يُستثنى منهم نخب تهذي بالخنوع.