صحيح… الوقت من ذهب

صحيح… الوقت من ذهب

09 يناير 2017
+ الخط -



موقِفٌ واحدٌ تعرَّضت له قبل أكثر من 16 سنة، جعلني أحترم أهميَّة الوقت طوال حياتي، بل وأعتبره ليس فقط من ذهب، أو أنه أثمن من كل المعادن النفيسة في العالم، بل هو العمر كله.

في أحد أيام صيف عام 2001، كان لدي موعد مع رئيس بنك مصر الدكتور، بهاء الدين حلمي، رحمه الله، لإجراء حوار معه. ولسبب خارج عن إرادتي، ويتعلق بمعركة المرور والزحام داخل القاهرة، والبحث عن موطئ قدم لركن السيارة، تأخَّرت عن الموعد المحدد عشر دقائق.

ما إن وصلت المكتب حتى وجدت سكرتيرة رئيس البنك مُتوتّرة، تسألني: "لماذا تأخرت كل هذا الوقت؟". فحكيت لها عن معركتي مع شوارع وسط القاهرة، إذ بقيتُ ما يقارب النصف ساعة أجوب الشوارع المحيطة بالبنك بحثاً عن موقف لسيارتي، حتى ولو في صف ثانٍ، أو حتى على الرصيف.

فقالت لي والتوتر لا يزالُ يلازمها: "الدكتور غاضب جداً من تأخرك، لقد سأل عنك عدة مرات، بل وعنَّفني على تأخرك، وسألني: لماذا لم أتواصل معك وأنبهك بضرورة القدوم قبل الموعد المحدد".

جلست في مكتب السكرتيرة بضع دقائق، وبعدها دخلت على الدكتور بهاء الدين حلمي، وقبل أن أصافحه كعادتي، أو أجلس على أقرب كرسي أمام مكتبه العتيق الذي كان يجلس عليه قبل نحو 90 عاماً طلعت باشا حرب مؤسس بنك مصر، عاتبني على التأخر كل هذا الوقت.

وظنّاً منّي أنّني ألطّف الأجواء، وأمتصّ غضبه الشديد، قلتُ له: "لقد تأخرت 10 دقائق يا دكتور، وليس ساعة أو حتى نصف ساعة".

ويبدو أنَّه ظن في كلامي استهانةً بعنصر الوقت، أو أنني أرسل له رسالة غير مباشرة مضمونها مبالغته في ردة فعله، فراح يلقنني درساً لم أنسه حتى هذه اللحظة في أهميّة الوقت من الناحية الاقتصادية، وكيف يمكن تحويل الوقت لأرقام واحتسابه بالمال.

فقال لي: "أنت صحافي اقتصادي، يعني من المفروض أن تحسب كل شيء بالورقة والقلم، وأن تزن الأخبار والمقالات والتقارير التي تكتبها بدقة، وأن تدرك أهمية أوقات المصادر التي تتعامل معها، خاصة إذا ما كانوا في مواقع حساسة، مثلاً محافظ البنك المركزي، رؤساء بنوك ومؤسسات مالية واقتصادية، مديرو أموال ومحافظ استثمارية وسماسرة عملات".

وواصل كلامه: "تعال نحسب هذا الوقت الذي تأخرته. ولن أضيف له الوقت الذي سأخصصه لك، وهو 20 دقيقة، بعد أن كان نصف ساعة. هل تعلم أن هذا الوقت، أي 10 دقائق، هو كافٍ لأن يحقق للبنك الذي أرأسه عائدات بملايين الجنيهات، وأن يدر للبنك أرباحاً ضخمة تنعكس على مركزه المالي واقتصاد البلد ويفيد عملاءه وموظفيه. هل تعلم أن هذا الوقت يكفي لأن أقابل عميلاً وصاحب مشروع جديد تبلغ استثماراته مليار جنيه، أي ما يعادل نحو 300 مليون دولار بأسعار ذلك الوقت، وأنه خلال هذا الوقت الذي تعتبره بسيطاً، يمكن للعميل الحصول على موافقتي على تمويل هذا المشروع الضخم بعد أن حصل على الموافقات المبدئية من إدارات البنك المختلفة ومنها الائتمان والاستثمار والتمويل ودراسات الجدوى.

هل تعرف أن هذا المشروع الذي وافقت عليه في 10 دقائق سيتيح نحو ألف فرصة عمل مباشرة وربما ألفي فرصة، إضافة لآلاف فرص العمل غير المباشرة. كما سيزيد صادرات البلد، وهو ما يخفف الضغط عن الدولار، وسوق الصرف والنقد الأجنبي المتاح لدى البنك المركزي. كما أن هذا المشروع سيزيد من حجم الإنتاج المحلي، ويوفر سلعاً للسوق بديلة للسلع المستوردة، وهو ما يخفف من عجز الميزان التجاري".

وواصل رئيس بنك مصر كلامه: "هل تعرف أن الوقت الذي تأخرته، وهو عشر دقائق، كافية لحل مشكلة أحد كبار العملاء المتعثرين، وتسويتها بدلاً من إحالتها للمحاكم، وإهدار ملايين الجنيهات للوصول لحكم يدين العميل. هل تعلم أن حل هذه المشكلة سيترتب عليه إعادة تشغيل مشروعات رجل الأعمال المتعثر التي يعمل بها مئات العمال، وتصل مبيعاتها السنوية لأكثر من مليار جنيه، وتسدد ضرائب لخزينة الدولة قيمتها 500 مليون جنيه، وتسدّد تأمينات وتفتح أبواب أسر وعائلات".

وبينا أفكر في حجم الجريمة التي ارتكبتها في حق وقت رئيس ثاني أكبر بنك في مصر، واصل الرجل حديثه قائلاً: "الوقت الذي تأخرته يكفي لاطلاعي على دراسة جدوى لمشروع استثماري تحت التأسيس، بل وإعطاء الضوء الأخضر لإدارات البنك المختلفة لدراسة المشروع من الناحية المالية والاستثمارية والتأكُّد من قدرته على السداد، وبحث توفير التمويل اللازم له".

وبعد أن ظننت أن كلامه انتهي عند هذا الحد سألني د. بهاء الدين حلمي: "هل تعرف أن هذا الوقت الذي ضيعته كاف لمتابعة استثمارات البنك في الخارج، والاتصال بإدارة العلاقات الخارجية وغرف المعاملات الدولية للتعرف عن تحركات العملات الرئيسية خاصة الدولار مقابل العملة المحلية والاطلاع على خطط إدارة الخزانة في تحقيق أرباح رأسمالية من المضاربة في العملات العالمية".

وقبل أن أجيب علي سؤاله، ولو بهزة رأس، واصل أسئلته: "هل تعرف أن رئيس البنك مسؤول عن إدارة مليارات الجنيهات من أموال المودعين، ومسؤول أيضاً عن زيادتها وتنميتها لمنح هؤلاء العملاء عوائد وأرباحاً تعينهم على تلبية احتياجاتهم المعيشية من مآكل ومشرب؟ تصور أنك أضعت اليوم 10 دقائق من وقتي، وبعدها يأتي صحافي أخر ليضيع مثلها، ثم يأتي عميل أو موظف أو مدير فرع أو رئيس قطاع كل يضيع مثل وقتك، والنتيجة ضياع ساعات من وقتي الذي يجب أن يخصص لإدارة 500 فرع و20 إدارة وقطاع وآلاف الموظفين، إضافة لحضور اجتماعات رسمية بالبنك المركزي ووزارات المالية والاقتصاد والاتصالات وغيرها. ماذا سيتبقى لرئيس البنك من وقت إذن حتى يدير مليارات الجنيهات، ويتابع مئات الفروع، ويتابع حالات التعثر المالي وموقف البنك من تسوية آلاف القضايا، ويبتّ في دراسات جدوي لعشرات المشروعات الجديدة، أو لتوسعات في مشروعات قائمة".

وواصل رئيس البنك كلامه حول مخاطر تضييع وقت كبار المسؤولين بالدولة، وضرورة مراعاة الصحافيين ذلك خلال عملهم.

ساعتها، قلت ليته سكت، فدرسه قاسٍ وصادمٌ وإن استفدت منه طوال حياتي العملية، ومن ساعتها بتّ أدرك أهمية الوقت، وأن مقولة "الوقت من ذهب إن لم تدركه ذهب"، و"الوقت كنز إن ضيعته ضعت" ليست مقولة إنشائية نمرُّ عليها مرور الكلام، بل هي حقيقة لمستها بنفسي ويجب أن نحافظ عليها.​

دلالات

مصطفى عبد السلام
مصطفى عبد السلام
صحافي مصري، مسؤول قسم الاقتصاد في موقع وصحيفة "العربي الجديد".