18 ساعة صيام

18 ساعة صيام

29 مايو 2018
+ الخط -
ما أصعب الصيام في الغربة، حتى ولو كان لبضعة أيام، وما أصعبه عندما تطول ساعات الصوم لتزيد عن 18 ساعة يومياً، كما حدث معي عدة مرات لدى زيارتي عدداً من الدول الأوروبية، وما أصعب الصيام بعيداً عن الأسرة والأهل.

منذ سنوات تلقيت دعوة لحضور مؤتمر اقتصادي دولي تنظمه إحدى المؤسسات الفرنسية، كان اليوم الأول للمؤتمر يوافق اليوم الأول من شهر رمضان، قبل انطلاق الشهر الكريم بيوم واحد غادرت القاهرة باكراً، متجهاً نحو العاصمة الفرنسية باريس.

وبعد نحو 5 ساعات من السفر وصلت إلى مطار شارل ديغول الدولي، قلت لنفسي: ساعة زمن، وربما أقل، سأكون في الفندق الذي أقيم به ويعقد المؤتمر به، خاصة أن المسافة بين المطار ووسط باريس تستغرق نحو 45 دقيقة فقط بالمترو.

خرجت من المطار وفضّلت أن أستقل تاكسي، لأن المترو يحتاج إلى مجهود كبير في الصعود والهبوط، خاصة أن بحوزتي شنطة سفر وأخرى بها أوراق وكتب، أعطيت لسائق التاكسي عنوان الفندق الذي أقيم به لمدة 5 أيام. ومن المطار انطلق التاكسي لمسافة تزيد على 70 كيلومتراً. قلت لنفسي: لا توجد مشكلة، فالمسافة بين المطار والعاصمة الفرنسية باريس تستغرق كل هذه المسافة، وسنصل إلى الفندق بعد دقائق، إلا أن المفأجاة كانت عدم دخول السائق وسط باريس التي أعرفها، بل وجدت التاكسي يذهب نحو منطقة زراعية شاسعة، وبدأ التاكسي السير لمسافات طويلة، وسط مناطق تشبه القرى في صعيد مصر، لكن على نظافة من حيث المباني والشوارع والترع.


هنا، بدأ القلق يساورني، سألت نفسي: حتى هنا في فرنسا يخطفون السياح والمسافرين الأجانب، ماذا يريد مني هذا السائق، لا يوجد لدي من العملات النقدية ما يغري هذا السائق بسرقتي، أم أنه ظن أنني ثري عربي يحوز بئر نفط في وسط منزله ومعه ملايين الدولارات جاء لفرنسا لبعثرتها على البارات والراقصات، لكن لكنتي المصرية تشي بأنني لست صاحب بئر نفط، وهيئتي لا تدلّ على أنني ثري. فليس في معصمي مثلاً ساعة ذهبية أو موبايل مطلي بالذهب أو حتى خاتم ذهب أو سلسلة في عنقي.

وبينما تساورني تلك الشكوك، نظرت حولي لأعرف أين أنا من هذا العالم، في أي بقعة من الأرض يتم خطفي، وهل جئت إلى فرنسا حتى أتحول إلى رهينة، وبدأت دقات قلبي تعلو.
سألت السائق: إلى أين نتجه؟
فقال: نحو الفندق.
وبسرعة رددت عليه: أي فندق؟
فقال: الذي زوّدتني باسمه، وأشار ساعتها إلى الورقة التي زودته بها، وفيها اسم الفندق ورقم تليفونه.

سكت برهة، قلت لنفسي: صحيح أنني زرت فرنسا عدة مرات، لكن كل الزيارات السابقة كانت محصورة بالعاصمة باريس وضواحيها، ربما يكون الفندق الذي أقيم به يقع على أطراف العاصمة، وربما يكون السائق قد سلك طريقاً مختصراً لتفادي زحام وسط باريس.
لكن عقلي لا يريد أن يتوقف عن التفكير وطرح الأسئلة، وبعد دقائق عاد القلق يساورني، فسألت السائق: هل اقتربنا من الفندق؟

كنت قبلها أنظر إلى العداد لأرى المسافة التي قطعناها، وكم سأدفع من المال، فوجدت أن المسافة تجاوزت مائة كيلومتر، والمبلغ المطلوب سداده 120 يورو، معنى ذلك أننا تجاوزنا باريس بـ 30 كيلومتراً.

رد عليَّ السائق وقد بدأ يقرأ في عيني القلق: سنصل بعد 15 دقيقة، وكاد ينطق بالكلمة المعتادة وهي: لا تقلق، لكن ربما تراجع لعدم إحراجي.
قلت بفزع: 15 دقيقة، فقال وهو يشير إلى الخريطة الإلكترونية التي أمامنا بجوار العداد: نعم، قالها بنفاد صبر.

سلّمت أمري إلى الله، وبعد الموعد المحدد وصلت إلى الفندق الذي اكتشفت أنه يقع على الحدود الفرنسية السويسرية، وليس في قلب باريس كما كنت أظن، وأن شكوكي وأوهامي لم تكن صحيحة، وأن خطفي كان من تأثير أفلام الأكشن التي أشاهدها من وقت لآخر. عندما أشار السائق إلى الفندق بيده النحيفة قائلاً: ها هو، قلت له: هذا يشبه المتحف، فابتسم، لأنه أدرك أن أعصابي هدأت.

لأول وهلة تشعر بأنك أمام قصر لأحد الملوك الذين حكموا أوروبا في القرون الوسطى، وهو كذلك مبنى رئيسي عتيق فيه صالة الفندق الرئيسية وغرف الموظفين وعدة محال لبيع التحف والهدايا، وهناك عدة مبانٍ أخرى لا يتجاوز ارتفاعها الدورين، وتضم مئات الغرف الفندقية، وهناك مبنى للعمال، وحول هذه المباني توجد حديقة مفتوحة فيها غابات كثيفة تشبه غابات فيتنام، وكذلك أشجار فاكهة وزراعات شاسعة. المنظر يأخذ القلب، خصوصاً أنه يقع وسط الزراعة ومحاط بمساحات كبيرة من الخضرة ويبعد عن العمران.

في اليوم التالي، انطلقت أعمال المؤتمر، التفتّ حولي فوجدت عدداً من الصحافيين العرب القادمين لتغطية المؤتمر مثلي، استبشرت خيراً، فمن المؤكد أن هؤلاء صائمون مثلي أو على الأقل أغلبهم صائم، خاصة القادمين من منطقة الخليج.

وبعد تعارف سريع على الصحافيين العرب؛ كان السؤال: متى موعد أذان المغرب؟ فرد أحدهم: في حدود الساعة التاسعة مساء، جلسنا نحسب عدد ساعات الصوم، فوجدنا أنها تتجاوز 18 ساعة في اليوم.. "الله المستعان.. ربنا يساعدنا"، هكذا قال أحدنا، وهو صحافي قادم من السودان.

لكن بقيت مشكلتنا الكبرى وهي: كيف نأكل ونحن في مكان منعزل؟ خصوصاً أن الفندق يقدم 3 وجبات في مواعيدها؛ وجبتان منها لا تتناسبان مع مواعيد الصيام.

وقصة الأكل في هذا الفندق الذي يعود تاريخ تأسيسه إلى القرن الثامن عشر كانت حكاية؛ فموعد الإفطار كان يبدأ في السادسة صباحاً، والغداء في الساعة الثالثة ظهراً، وبالطبع ليس لنا نصيب في الإفطار والغداء لأننا صائمون.

تبقى وجبة العشاء التي يحل موعد تقديمها في الساعة العاشرة. قلنا: لا توجد مشكلة؛ نفطر مع وجبة العشاء التي سيحل موعدها بعد أذان المغرب بساعة، أي نستمر في الصيام حتى العاشرة مساء مع شرب المياه.

ذهبنا إلى المطعم لتناول وجبة الإفطار بالنسبة لنا كصائمين والعشاء حسب مواعيد الفندق، لكن كانت المفاجأة، الفندق يقدم وجبات عشاء خفيفة تتناسب مع أجساد وأكلات الفرنسيين، أي أنها لا تسد جوعاً ولا تملأ حتى ربع المعدة الفارغة.

خرجنا من المطعم ونحن جوعى، وكأننا لم نأكل شيئاً، فعينات الطعام التي تناولناها لا تملأ معدة طفل، وعلى الرغم من الحال التي كنا فيها فكرنا سريعاً في وجبة السحور، فلا يوجد سحور، لا توجد وجبات بالفندق بعد وجبة العشاء، ولا توجد محال تجارية قريبة منا، فالفندق بعيد عن العمران، وكان الحل هو الاستفادة من الحديقة المحيطة بنا ومن شجر الفاكهة الموجود في كل اتجاه حولنا، لننطلق إلى الحديقة الشاسعة، ففيها من كل الخيرات، عنب وبلح وتفاح وغيرها، هز الشجرة فقط وستتساقط عنها الرطب والثمار. وقد تكون محظوظاً حين تجد الثمار ساقطة بالفعل أسفل الشجرة بلا أي مجهود عضلي منك.

مصطفى عبد السلام
مصطفى عبد السلام
صحافي مصري، مسؤول قسم الاقتصاد في موقع وصحيفة "العربي الجديد".
The website encountered an unexpected error. Please try again later.