موقعة الهمزة.. "ويعجبني في الذكريات سخاؤها!"

موقعة الهمزة.. "ويعجبني في الذكريات سخاؤها!"

05 يناير 2023
+ الخط -

شهدت الحلقة الثالثة من الموسم العاشر لبرنامج أمير الشعراء، جدلًا أعاد للذاكرة فصولًا كثيرة من عبق الماضي، وفيها ما أطلق عليها كاتب هذه السطور "موقعة الهمزة"، ولعلها موقعةٌ قديمة متجدّدة.

تناقلت منصات التواصل المشهد، خالعة عليه من البهارات قدرًا لا بأس به، منها "الشاعر الذي أحرج لجنة التحكيم"، و"شاعر يتفوق على لجنة تحكيم"، و"شاعر يقصف جبهة النقاد"، إلى آخر تلك المواد الحريفة، ما أسهم في رواج المقطع ونقل رحى المسألة من الشاشة إلى منصات التواصل الاجتماعي.

بداية، الشاعر ليس معروفًا في العالم العربي، وربما ليس واسع الصيت في عقر داره، ولو أنه أنشد شعره وغادر المنصة (على غرار سابقيه ولاحقيه في الحلقة ذاتها) لما جذب الأنظار ولا سرق الكاميرا من لجنة التحكيم؛ فالشاب الليبي عبد السلام سعيد أبو حجر ألقى قصيدة وفيها "ويعجبني في الذكريات سخاؤها"، فلما انتهى من إنشاده بدأت القصة.

رئيس لجنة التحكيم يسأل: لماذا سخاؤها؟ هنا يتبادر إلى الذهن أنّ مغزى السؤال: إذا كانت الذكريات أليمة قاسية على المرء؛ فهل سخاؤها يعجبه؟ أمن المعقول أن يسعى إنسان عاقل إلى جلد نفسه واجترار ذكريات وعذابات يضيق بها صدره؟ وكيف يقبل أن يتقلّب على جنبي الشقاء كما يدور الحمار في الرحى؟! يُفهم ذلك من عنوان القصيدة (التفات)، وما تحمله من شحنات معنوية سلبية ممثلة في المطلع "لأني كرهت الآنَ والآنُ ضيقٌ/ يحاصرني ما بعده فهو أضيقُ".

تصدّى مختصون في عالم اللغة والأدب والنقد لزلّة الهمزة، لم يتسقطوا الخطأ أو يلتمسوا الزلل، لكنهم فنّدوا مقالة اللجنة

ليس ذلك فحسب، بل إنه يواصل الانهماك في دوامة الماضي "ويشغلني عن لحظتي أنّ لحظتي/ سرابٌ وما في لحظتي ما يُصدّقُ"، ثم يأتي بيت القصيد ومربط الفرس "ويعجبني في الذكرياتِ سخاؤُها/ إذا شحتِ الأوقاتُ في الذهنِ تُغدقُ"، ومن ثم فإنّ سؤال رئيس لجنة التحكيم مهم، فحواه مؤدّاه: ما الفائدة من البكاء على لبن مسكوب؟ ولماذا لا ينعتق الشخص من علاقة تؤذي مشاعره وتدمي فؤاده؟ أمن الضرورة أن يمضي على طريقة كاظم الساهر "سكّينُ غدرِكَ في الحشا تتربَّعُ/ سلمتْ يداكَ بقدر ما أتوّجَعُ"؟!

هذا ما فطن إليه الشاعر حين قرع السؤال أذنيه، لكن للجنة التحكيم بُعدًا مغايرًا، "ولكلٍّ وجهةٌ هو موليها"، هذه المرّة سأل الدكتورُ: لماذا "سخاؤها" بالرفع؟ هنا ثالثة الأثافي، من هنا قامت القيامة الصغرى، إذ إنّ الجملة (ونحن على ساحل النحو، لم نبحر بعد في تعقيداته) اسمية وفعلية، الاسمية مبتدأ وخبر، والفعلية فعل وفاعل وربما تحتاج إلى مفعول؛ فإذا أخطأ طُويلب علم في تمييز الفاعل، قُرِّع ووُبِّخ واتهم بأنه مدخول العقل؛ فكيف بمن يتصدى لنقد جملة؟ وعلى أيّ شاكلة يكون الأمر إذا تصدّى هذا المرء لرئاسة مركز مرموق يحمل لواء الضاد، يدافع عنها وينافح؟!

الأمر هيّن، وليس لأحد عصمة من السهو أو الخطأ، أجاب الشاعر: السخاء فاعل، ومن ثم فشطر البيت لا غبار عليه "يُعجبني في الذكريات سخاؤها"، وجادل كبير المحكمين، ومالأته الزميلة الدكتورة الناقدة، والتي لم تكتف بنقل الفاعل "سخاؤها" إلى المفعولية "سخاءها"، فجوّدت وانتقلت إلى مستوى آخر من الهزل، فأحالت الفاعل مجرورًا/مخفوضًا "سخائها"، مضيفة وعاتبة على الشاعر "شُفت! غلطتنا كلنا"، واستطرد الزميل الثالث في اللجنة "إنه عجيبٌ ويجيب".

حتى الآن، لم تنته المسرحية الهزلية التي أنَّت لها مدارس النحو قاطبة، قديمها وجديدها، إذ طلب رئيس اللجنة من الممتحَن أن يراجع نفسه ويعود مقرًّا بذنبه، مذعنًا بمفعولية السخاء. هنا، قامت القيامة الكبرى، إذ تصدّى مختصون في عالم اللغة والأدب والنقد لزلّة الهمزة، لم يتسقطوا الخطأ أو يلتمسوا الزلل، لكنهم فنّدوا مقالة اللجنة.

إذا أخطأ طُويلب علم في تمييز الفاعل، قُرِّع ووُبِّخ واتهم بأنه مدخول العقل؛ فكيف بمن يتصدى لنقد جملة؟

غرّد كبير اللجنة بما مضمونه أنّ السؤال إياه كان "اختبارًا لأعصاب الممتحَن وقياسًا لثباته الانفعالي"، ونجح كذلك في أن يكون "امتحانًا لاختبار قدرات المتعالمين"، واصفًا ملابسات (موقعة الهمزة) بـ"حملة إخوانية لتصفية الحسابات مع أمير الشعراء والإمارات"، ينفخ في كيرها أصحاب "العداء التاريخي للإبداع والأدب والجمال".

ومع احتقان المشهد، خرج سارق الكاميرا من الجميع، الشاعر عبد السلام أبو حجر، محاولًا فضّ الاشتباك:

ولمّا تبارى الناس في فرض شهرتي/ على همزتي لمّا رفعتُ ذُراها

وقيّض لي ربّي عبادًا كثيرةً/  فأشكرُها من دون أن أتباهى

 خرجتُ من الإشكال حتّى أُريحهُم/ وخلّيتُ عنها همزتي وبَلَاهَا

 يُؤرّقُني في الوقت يومي وبعدَهُ/  ويُعجبُني في الذكريات سخاها

 

 مستغنيًا بذلك عن همزته دفعًاً للصداع، مترّسمًاً خطى القدماء ولسان حاله يردّد مع أبي الطيب:

 أتيتُ بمنطِقِ العربِ الأصيلِ/ وكان بقدر ما عاينتُ قيلي

 فعارضه كلامٌ كان منه/ بمنزلة النساءِ من البعولِ

وهذا الدُّرًّ مأمونُ التشظي/ وهذا السيفُ مأمون الفُلولِ

 وليس يصح في الأفهامِ شيءٌ/ إذا احتاج النهار إلى دليل

وبعيدًا عن الاتهام والاتهام المقابل، تردّنا هذه الهمزة إلى كتب الأولين، إذ أورد ابن قتيبة في "عيون الأخبار"، وابن عبد البر في "بهجة المجالس وأنس المجالس" أنّ أعرابيًّا قيل له: أتهمز إسرائيل؟ قال: إني إذا لرجل سوء، قيل له: أتجرّ فلسطين؟ قال: إني إذا لقويّ، وقيل لآخر: أتهمز الفارة؟ (أي: أتقول الفأرة، سُئل بذلك عن اللفظة، فظن أنّ المراد شخص) فقال: الهرّة تهمزها!