من ملعب الحياة

من ملعب الحياة

04 اغسطس 2021
+ الخط -

وقفت وبكل احترام أمام قامة كبيرة، أستاذ جامعي هنا في النمسا، وهو يهمّ بالدخول إلى بهو مكتبة "تاليا" التي تتوسط شارع ماريا هيلفر الرئيسي في فيينا، وفي داخل المكتبة المهيبة. لفت نظري مدى تواضعه الجَمّ، وحديثه المسهب المفعم باللباقة والدقّة وهو يحاول جاهداً أن يشرح لي، بعد أن تعارفنا إلى بعضنا البعض، وبلغته الألمانية الصرفة التي يتحدثها أكثر من مائة مليون إنسان، وتقتصر على عدد من الدول التي تجيد التعامل بها حصرياً، وتعتمدها كلغة أساسية في ألمانيا، النمسا، بلجيكا وسويسرا، ولوكسمبورغ، وليختنشتاين، وغيرها من الدول التي تحتوي على أقليات.

اللغة التي تتعدد مفرداتها، وتتفرّد عن غيرها بمصطلحاتها الثقيلة، وفيها من الصعوبة ما يكفي، وأكثر ما يصعب عليّ التقاط بعضها بسهولة، والسبب تحدث ذلك الأستاذ بلغة فصيحة جداً، ما اضطرني إلى الاستعانة بأحد زوّار المكتبة الذي أصغى إلى ما قاله رغم أن سنّه تتجاوز الخامسة والستين عاماً، وحاول الزبون أن يصل إلى فكرة ذلك المدرس الجامعي العتيد. وبكل بساطة، بعد أن أفهمه مقصده مما يريد، ما كان عليَّ، أنا المنصت العربي الذي أتردد بصورة دائمة على المكتبة والاطلاع على كل ما هو جديد فيها، إلّا الأخذ بما قاله الأستاذ الجامعي من أفكار مستنيرة، تخللت ذلك لغة فصيحة ونطق سليم. وإلى جانب ذلك، كان يرتدي قميصاً متواضعاً و"شورت" طويلاً نسبياً، وكنت أظنه في بادئ الأمر أنه أحد صيادي الأسماك، لا سيما أنّ هيئته لم تكن تثير أي أحد من المترددين على المكتبة العامرة بالمطبوعات الجديدة والمجلات والصحف الصادرة حديثاً، وبالزبائن الكثر الذين تراهم يرتدون أجود الألبسة الفاخرة ومن ماركات مشهورة لها اسمها في السوق المحلية، على أنه أستاذ جامعي، وكل ما لمسته فيه الوداعة والبساطة والطيبة، والثقة بالنفس المجبولة بالمعرفة، وإرشاد النصح لي ولأمثالي ممن لا يزالون يتعلقون بدهاليز الأجواء الشرقية ورتابتها، على الرغم من أنني أمضيت في النمسا ما يزيد عن السنوات الثماني مقيماً فيها، وقبل ذلك قضيت العديد منها زائراً ومقيماً في الولايات المتحدة، وغيرها من دول عربية وغربية.

كنت دائماً أحذرها من رمي ما تبقى من هذا النوع من الجبنة التركية التي أفضلها على بقية الأنواع الأخرى، لا سيما أنّها طرية وخفيفة الظل على المعدة

كدت أختنق وأنا أوجّه حديثي إلى زوجتي "المصون" التي أختلف معها في كثير من القضايا المنزلية.. وهذه المرة، مع ما تبقى من وجبات الإفطار الصباحي التي تقوم بتحضيرها ابنتي الشابة، بحضور الأسرة، وبعد الانتهاء مما تبقى منها تقوم برمي أغلبها في كيس الزبالة على الرغم من أنها لا تزال في حالة جيدة، وصالحة للاستهلاك، إلّا أنّها تدعي أن الجبنة، بصورة خاصة، بعد بقائها أكثر من يوم مكشوفة في الثلاجة، تكون قد فقدت قيمتها الغذائية، وضررها يكون أكثر من نفعها.

استسلمت لردها الذي لم أستسغه، بل إنّني أكدت لها أنه يمكن الاستفادة منها في إفطار صباح اليوم التالي، وأنا أتقبلها، كما هي بصدر رحب، وكنت دائماً أحذرها من رمي ما تبقى من هذا النوع من الجبنة التركية التي أفضلها على بقية الأنواع الأخرى، لا سيما أنّها طرية وخفيفة الظل على المعدة، وتخلو من الدسم المعروف عن الجبنة العربية، ما يجعلني أستبعد تناولها رغم أنها غنية بالدسم الذي أجلبه إلى بيتي بصورة دائمة، إلّا أنني أفضل هذا النوع الأول من أقراص الجبنة المعمول بطريقة تختلف تماماً عن غيرها، لجهة سهولة هضمها ومذاقها الطيب. فما كان من زوجتي، وبدون قصد منها، قيامها برمي ما بقي منها في الطبق الذي تحضره لي إحدى بناتي، وهذا ما يزيد من خلافي معها، وباستمرار. وفي إحدى المرات طلبت منها أن تضيف إلى أطباق الإفطار المتنوعة قطعتين إضافيتين من الجبنة التركية، وفوجئت بقولها: إنه لم يبق منها أي شيء! فقد رميتُ ما بقي منها في الأمس في كيس الزبالة!

فقلت لها: إنّها المرة العاشرة التي أطلب منك عدم الإفراط بها، وإبقاءها كما هي، فأنا من عشّاقها ومن المحبين لها، فأرجوك عدم المساس بها في المرة القادمة، وعدم رميها في كيس الزبالة، فإنّي أرى في ذلك شرخاً كبيراً وتحدياً لي..!

اتركي لي هذا النوع من الجبنة، سأتولى أمرها بنفسي في الحفاظ عليها في الثلاجة، وإن كان استهلاكها، كما تؤكدين، فيه ضرر كبير لي، وسأكون راضياً عنها مهما كانت الفترة التي تركت فيها مكشوفة في الثلاجة، فهذا يرضيني، وإن كنت أراكِ مصرّة على الخلاص منها، مع شكري لك على حرصك الذي لا أجدُ أنّه يروق لي!

6C73D0E8-31A0-485A-A043-A37542D775D9
عبد الكريم البليخ
صحافي من مواليد مدينة الرقّة السوريّة. حصل على شهادة جامعيَّة في كلية الحقوق من جامعة بيروت العربية. عمل في الصحافة الرياضية. واستمرّ كهاوي ومحترف في كتابة المواد التي تتعلق بالتراث والأدب والتحقيقات الصحفية.