من زياد الحريري إلى نزار قباني

من زياد الحريري إلى نزار قباني

23 يوليو 2022
+ الخط -

- لكي نفهم، يا عزيزي أبو صالح، ما جرى معنا، أنا وأبو سليمان، وكيف التقينا بعد انقطاع، يجدر بي أن أرسم لك خلفية تلك الفترة من الناحية السياسية. فأنا وأبو سليمان افترقنا إثر هزيمة يونيو 1967، والتقينا بعدما وقعت سورية في قبضة الديكتاتور حافظ الأسد 1972.

- أنت ترى أن هذا ضروري؟

- قد لا يكون ضرورياً، ولكن هذا السرد، على ما أعتقد، لا يخرج عن فكرة (المؤانسة). هل سمعت بالضابط زياد الحريري؟

- نعم. أتذكر أنني سمعت به. ألم يكن مشاركاً في انقلاب 8 آذار / مارس 1963؟

- لم يكن مشاركاً وحسب، بل كان هو صاحب الانقلاب، ولعل ذلك كان أغرب انقلاب عسكري عرفه التاريخ.

- أف. إلى هذه الدرجة؟ كيف؟

- قرر زياد الحريري أن يقوم بالانقلاب قبل 8 آذار 1963 بزمن لا بأس به، وصار المواطنون السوريون، عندما يلتقي أحدهم بآخر يقول له: سمعت لك من الناس سمعة، قالوا إن زياد الحريري بده يعمل انقلاب. فيرد الثاني: أنا كمان سمعت، ولكن متى؟ فيرد الأول: والله ما بعرف. على تيسير الله. وأحياناً يستيقظ مواطن، ويفتح الراديو ويقول لامرأته: خلينا نسمع النشرة، لنشوف زياد الحريري عمل انقلاب ولا لسه. وفي يوم 8 آذار / مارس 63، قام زياد الحريري بانقلابه فعلاً، وبعد مدة وجيزة استولت اللجنة العسكرية على الحكم، وأرسلت زياد الحريري إلى أوروبا ليعمل سفيراً متجولاً، وأعلنوا أن هذا الاستيلاء على الحكم اسمه ثورة البعث، وصاروا يغنون في الراديو:

الدهرُ دارتْ دورتُهْ

والبعثُ قامتْ ثورتُهْ

وصار طلاب المدارس البعثيون يحاولون الاستيلاء على الشارع، فيخرجون بالعشرات ويهتفون: الله أكبر بعثية. وذات مرة اصطدموا، في أحد شوارع مدينة إدلب، مع طلاب شيوعيين، وطلاب إخوان مسلمين، وصار تبادل الضرب بين تلك الأطراف بجنازير البسكليتات، وبعدما انتصر البعثيون على الطرفين، اعتلى أحدهم صهوة رفيق له، وصار يهتف:

بعثية نزلتْ ع الشارع

الله أكبر عَ اللي يمانع

يا سيدي، وبعد ثلاث سنوات فقط، في 23 شباط / فبراير 1966، تآمر صلاح جديد وحافظ الأسد وضباط آخرون على البعثيين السابقين الذين كان يقودهم أبو عبدو، محمد أمين الحافظ، وشلحوهم الحكم، وهذا الأخير أبو عبدو - لعلمك - كان يريد أن يطبق الاشتراكية، ولكنه لم يلحق..

- الكل كانوا يصرحون بأنهم يريدون تطبيق الاشتراكية، وليس أمين الحافظ فقط.

- أعرف، ولكن "أبو عبدو" كانت له حكاية مع تطبيق الاشتراكية، يرويها صديقنا "محمد أمير ناشر النعم"، وهي أن أبا عبدو، بعدما أصبح رئيساً للبلاد، زار مسقط رأسه، حلب، والتقى بمجموعة من الفعاليات، منهم بعضُ رجال الدين، وقال لهم بلهجته الحلبية المميزة:

- خيو، أنا بدي أطبق الاشتراكية!

فقام شيخ ذكي جداً، وقال له:

- ونحن معك، ولكن، يا سيادة الرئيس، هناك أنواع من الاشتراكية: الطوباوية، والعلمية، واشتراكية سان سيمون، فأي واحدة تريد أن تطبق؟

بُهت أبو عبدو، وقال:

- أنا إشو معرفني بكل هذا العلاك؟ بدي أطبق الاشتراكية والسلام!

ضحك أبو صالح وقال: على قولة أهل معرتمصرين هادا أبو عبدو فهمان دَحي!

- نعم، وأنا كلما جاءت هذه الحكاية في بالي أتذكر حكاية تشبهها جرت أيام الخدمة العسكرية في حمص سنة 1978.. التقيت، في الدورة، بمجموعة من الشبان القادمين من مختلف المحافظات، وكان بينهم مثقفون ذوو اهتمامات أدبية. وهذا كله طبيعي، إلى أن كنا، ذات يوم، نسهر بالقرب من أسرّة النوم الخاصة بنا، ونتحدث في الأدب، وإذا بشاب يأتي من آخر المهجع، وقبل أن يسلم أعلن أنه يكتب الشعر منذ سنوات، وحينما سينتهي من الخدمة العسكرية سوف يجمع أشعاره في ديوان، ويُصدره عن اتحاد الكتاب العرب..

استغرب أحد الأصدقاء، وقال له:

- أراك تتحدث عن طبع ديوانك بثقة، وعلى علمي أن اتحاد الكتاب لا يمكن أن يطبع كتاباً لشاعر مغمور إلا إذا كان هذا الشاعر خارقاً.

قال الشاعر: ما بدها تكون لا خارق ولا مارق، أنا خالي في المكتب التنفيذي، ووعدني يطبع لي الديوان.

قال له آخر:

- أخي، الشعر أنواع، الشعر العمودي، وشعر التفعيلة، وقصيدة النثر، يمكننا، كذلك، أن نقسمه إلى شعر قديم وشعر حديث، فأي شعر تكتب حضرتك؟

استغرب الرجل، مثلما استغرب أمين الحافظ يوم سئل عن أنواع الاشتراكية، وقال:

- إشو قديم، إشو حديث؟ أنا متلما بيكتب نزار قباني بكتب.

قال أبو صالح: فهمت. يعني حضرته متأثر بنزار قباني.

- يا ليته كان متأثراً بنزار. فحينما طالبناه أن يقرأ لنا إحدى قصائده، ذهب إلى سريره، فتح حقيبته، أخرج منها دفتراً متوسط الحجم، وعاد إلينا، وصار يقرأ لنا من قصيدة نزار "خبز وحشيش وقمر":

عندما يولد في الشرق القمر

فالسطوح البيض تغفو

تحت أكداس الزهَر

يترك الناس الحوانيتَ ويمضون زُمَرْ

لملاقاة القمر..

ولعلمك، أخي أبو صالح، هو قرأها بطريقة مفشكلة.

- يبدو لي يا أبو مرداس أن استرسالك زاد عن حده. كنت تحكي لي عن الجو السياسي والاجتماعي الذي عشتموه في أوائل السبعينيات. وإذا بك تصل إلى نزار قباني..

- نعم. وأنا، بالمناسبة، أعرف كيف أعود إلى السياق مهما استرسلت. يا سيدي، وفي سنة 1970 تآمر حافظ الأسد على رفاقه، وبضمنهم صلاح جديد، ودحشهم في السجن، واستولى على الحكم.. وهنا وجد حافظ نفسه بحاجة لشيء من الشرعية، أو الرضى، فراح يشتغل على عدة جبهات لكي يحبه السوريون، أو يقبلوا به على الأقل، مِن ذلك أنه أمر وزير التعليم العالي بأن يعلن عن سياسة قبول جامعي غوغائية أطلقوا عليها اسم "سياسة الاستيعاب الشامل"، يعني، كل طالب أخذ بكالوريا، بمجموع كبير أو متوسط أو صغير، له مقعد في كلية جامعية، أو معهد متوسط، تماماً مثل بونات التموين التي أوجدها نظام حافظ الأسد نفسه، فلكل مواطن بون (قسيمة شراء)، وكل مَن يمتلك بوناً يأخذه ويذهب إلى شركة التجزئة، ويأخذ حصته من الرز والسكر بسعر مخفض.. والمخابرات الذين كان حافظ الأسد قد فتح لهم فروعاً جديدة، وزودهم بميزانيات ضخمة، وضاعف أعدادهم، وأعطاهم امتيازات استثنائية، استغلوا هذه (المكرمة الأسدية الفوضوية) ونزلوا إلى الشوارع، وصاروا يقولون للناس: شفتوا؟ هذا رئيس جمهورية غير شكل، كل أولادكم بده يقبلهم في الجامعات والمعاهد، وكلها على بعضها سنتان، أو أربع سنوات، ويعودون إليكم بشهادات جامعية كل واحدة أكبر من ملحفة اللحاف.

- جميل. ولكن أين صديقنا أبو سليمان؟ هل نسيته؟

- لا. ولكننا سنتحدث عنه في اتصالك القادم.

(للحديث صلة)

خطيب بدلة
خطيب بدلة
قاص وسيناريست وصحفي سوري، له 22 كتاباً مطبوعاً وأعمال تلفزيونية وإذاعية عديدة؛ المشرف على مدوّنة " إمتاع ومؤانسة"... كما يعرف بنفسه: كاتب عادي، يسعى، منذ أربعين عاماً، أن يكتسب شيئاً من الأهمية. أصدر، لأجل ذلك كتباً، وألف تمثيليات تلفزيونية وإذاعية، وكتب المئات من المقالات الصحفية، دون جدوى...