من الخرطوم.. هنا غزة

من الخرطوم.. هنا غزة

28 ديسمبر 2023
+ الخط -

البيوت محتلةٌ بعد إخراج أهلها منها، والشوارع ثكنات عسكرية تعجّ بالقوات والجنود الهمجيين، والرصاص يخترق صدور الأبرياء ليل نهار دون استراحات بينية، والآلاف، وعشرات الآلاف، يهاجرون من منزل إلى منزل، ومن بلدة إلى بلدة، حاملين حقيبة واحدة على الأكثر، تلخص كل ما تبقى لهم في هذه الدنيا من زاد، وسط ما تبقى لهم في هذه الدنيا من عمر، لأن الأعمار بيد الله، وكذلك، بأقدارٍ محددة، قد تكون عبارة عن طلقة، أو غارة، أو شظية، أو حسرة، تميت أصحابها.

هناك طرفان: طرفٌ مدججٌ بالسلاح، والقوة، والعتاد، والعدة، والعربات المصفحة، والمدرعات، والدبابات، والطائرات، والآليات العسكرية كافة، يسرق الذهب، وتدعمه عواصم غسل الأموال وتجارة الذهب الحرام، ورغم ذلك فهو يدّعي -عبر استغلال الدين- أن لديه حقًا في تلك الأرض، وأنه يملكها، وأن عليه القضاء على "المخربين" فيها، واستعادتها، والسيطرة عليها، حتى ولو على حساب المدنيين العزّل المخرَجين من بيوتهم، وهناك طرفٌ آخر، يملك الأرض، والبيت، والقمح، والذهب، والماشية، والسيارة، والشارع، والميدان، لكنه فجأةً وجد نفسه خارج ذلك كله، تصنفه الأمم المتحدة، وتعريفاتها بأنه في عداد النازحين، حتى ولو كان داخل أرضه، حتى ولو كان أعزّ قومه، وأفحشهم ثراءً!

تلك قصة فلسطينية بامتياز، لن تتردد ثانيةً قبل أن تنسب النص إلى المأساة الواقعة بين النهر والبحر هناك، ولن تتحيّر كثيرًا في أن تقول إن ذلك بمناسبة العدوان على غزة الذي يجري منذ ثمانين يومًا؛ لكن الصدمة أن ذلك النص يحكي عن أرضٍ عربية أخرى، محتلة من عصابات مسلحة، تشبه فكرة تكوينها تقريبًا عصابات الهاغاناه التي أسست إسرائيل قبل خمسةٍ وسبعين عامًا، على الأشلاء والأطلال، وبعض النصوص الدينية مساءة الاستغلال، مدعية الحق التاريخي في أرض فلسطين، تلك العصابات السودانية القادمة من قطاع الطرق وتجار الذهب من المناجم المسروقة، تفعل ذلك الآن بحق ملايين السودانيين الطيبين الأبرياء.

المأساة، بكل ما فيها من فظائع، لا يبدو منها إلا ما يطفو على السطح بالصدفة، أما تفاصيلها فمتراكمة في الأعماق، ومترسبة في قاع عيون السودانيين

مدينة تلو مدينة، وقرية تلو قرية، محرقة "جنجويدية" كبيرة تلتهم كل شيء، وهذا كبيرهم "حميدتي" الذي لا يذر من شيء أتى عليه إلا جعله كالرميم، قربانًا لطموحه المجنون، ولرغباته المسمومة، ولأسياده في مدن الزجاج الفاخرة، الذين لا يهمهم من السودان إلا لمعانه الأصفر، أما اللمعان الأسمر فلينطفئ وميضه للأبد، وليس مهمًّا أن تلمع أسنانه البيضاء إلا في الصراخ وحده، لحظة اختراق الطلقة قفصه الصدريّ، بينما يضحك الساكن في برجه العاجيّ الشاهق، متابعًا ما يفعله عمال منجمه في البلد المسكين.

المأساة، بكل ما فيها من فظائع، لا يبدو منها إلا ما يطفو على السطح بالصدفة، أما تفاصيلها فمتراكمة في الأعماق، ومترسبة في قاع عيون السودانيين، الذين رأوا أمامهم اغتصاب نسائهم، وفتياتهم، لأن الجنديّ القذر المتعطّش للقتال يريد إشباع نزواته، وكسر ضحاياه، وممارسة أنجس ما يمكن لإنسانٍ مجرمٍ ارتكابه من جرائم شنيعة، وهو انتهاك عرض ضحاياه، فضلًا عن قتلهم، ليموتوا من الشعور المؤلم حد الجنون.

كل ذلك، لم يكن في غزة الجريحة، التي ما زالت تنزف بالغزارة ذاتها، منذ بدء طوفان الأقصى، وما قبله بنحو ثمانية عقود، بل في الخرطوم وود مدني وغيرهما، داخل السودان النازف هو الآخر، دماءً حمراء قانية، تماثل دماء غزة تمامًا، في معزلٍ من الكاميرات والتوثيق، إلا من الروايات السريعة بين عجلة طلقتين، فلتكن عيوننا هناك أيضًا، حيث لا مكان في الأسفل إلا للجثث المتكوّمة.