من الجوهري إلى الجواهري

من الجوهري إلى الجواهري

01 يونيو 2023
+ الخط -

للغة العربية عبَقُها، يعرفه كلّ منْ خاض أو يخوض في بحورها العميقة، مستعيناً بما تركه العرب من كتب حول خصائصها وذخائرها وإبداعاتها عبر القرون، منذ العصر الجاهلي وحتى القرن العشرين الميلادي.

هذه اللغة الساحرة لي أنا؛ ذاك المواطن البسيط العائش في جغرافية منسية في الجنوب الغربي من الجزيرة العربية، التي كانت مسرح فرسان العربية من أئمة اللغة والشعراء ورواتهم. ولا أبالغ إن قلت إنّ جغرافيتي المنسية نفسها كانت مشاركة في ذلك، إذ يُروى أنّ أوائل سطور الشِعر العربي (منذ أن عرف العرب فن الشِعر)، قيلت على مشارف "دَمُّون" بحضرموت لأمرئ القيس بن حُجْر الكِندي عندما ترنّم:

تَطاولَ علينا الليلُ دَمّونْ

دَمّونُ إنّا معشرٌ يمانونْ

وإنّنا لأهلنا مُحِبّونْ

وبعدها تدفق نهر السحر في عُباب العربية، ولم ينضب حتى اليوم.

بنى العرب مجدَ لغتهم طيلة تنقلهم في بواديهم حتى بلغ قمته في القرن السابع الميلادي، وقد تتوّج هذا المجد بنزول القرآن الكريم (آخر رسالات السماء) بألفاظه وصيغه، وخلال القرون اللاحقة ظلّت العربية شغل العرب الشاغل؛ فهم يرون أنّ هذا الجسد اللغوي هو جسدهم وهويتهم التي ميّزتهم عن غيرهم؛ إذ يقول محمود درويش:

هذه لغتي ومُعجزتي، عصا سِحري

حدائقُ بابلي ومِسَلتي، وهُويتي الأولى

ومعدنيَ الصقيلُ

ومقدَّسُ العربيِّ في الصحراءِ.. يعبدُ ما يسيلُ

من القوافي

كالنجومِ على عباءتهِ

ويعبدُ ما يقولُ..

من أجل ذلك كتبوا ووثقوا كلّ موروثهم اللغوي شِعراً ونثراً، بل وتقعيداً لكلّ قواعدها وخصائصها، فكانت المعاجم التي حاولت حصر ألفاظها.

اللغة العربية هي جسد العرب وهويتهم التي ميّزتهم عن غيرهم

واحد من هذه المعاجم هو مُعجم الصِحَاح في اللغة الذي كتبه الجوهري، أبو نصر إسماعيل بن حمّاد الجوهري الفارابي من أهل فاراب (وراء نهر سيحون، كازاخستان حالياً)، قيل عنه أنه اختل عقله في أواخر عمره، فمات متردّياً من سطح داره بنيسابور عام 393هـ. 

صحيح أنّ هناك معاجم سبقته وأخرى لحقته، لكن معجم الجوهري ظلّ محتفظاً بمكانته حتى اليوم، ومنْ جاؤوا بعده غرفوا منه الكثير.

العرب هم أهل لغة وشِعر، وهذا الأخير هو ديوان العرب عبر العصور، يتجدّد مع تجدّد الحياة العربية وظهور أدباء ينفخون الروح في مفاصله كلمّا تيبست أو خارت قواه.

في القرون المتأخرة، مع حركة الترجمة والصدام بالآخر، خاض الشِعر العربي معركته للبقاء، يطرب محبيه بألوانه العتيقة وهو يتلفع بثياب التجديد، فكان الشِعر الحرّ الذي خلع قيد البحر الشعري وحافظ على الإيقاع، لكن طائفة من أدباء العربية نظروا إلى عمود الشِعر أنه من عتيق الأدب، حتى أنّ أحد شعراء العربية نعى للشِعر العمودي نفسه!

لكن هيهات، الشِعر الجيد لا يموت وإن بدّل قوالبه، لا تموت إلا الموهبة المعدومة لدى منْ يخمشون الوريقات خَمْشاً يسمونه أدباً؛ فقد نهض شعراء أعادوا للشِعر، بنوعيه العمودي والحر، رونقه وعذوبته، ولعل الشاعر العراقي محمد مهدي الجواهري واحدٌ من هؤلاء العمالقة.

هنا تضع مفردة (العراق) نفسها في مسار العربية، فالعراق بلد اللغة والشِعر منذ تمصير الكوفة والبصرة في خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه، هاتان المدينتان هما مهد أئمة اللغة ممن نعرفهم؛ الفراهيدي وسيبويه والفرّاء والكسائي و…إلخ.

لو لم يُعرف المتنبي شاعراً لكان واحداً من أئمة اللغة، بما لديه من رصيد لغوي معروض في ديوانه

 

أما الشِعر، فمن الكوفة خرج أعظم شعراء العربية في كلّ العصور؛ إنه أبو الطيب أحمد بن الحسين المتنبي، الذي ملأ الدنيا شِعراً وشغل به الناس حتى اليوم، ألم يقل عن قصائده: 

أنامُ ملءَ جفوني عن شواردِها

ويسهرُ الخلقُ جرّاها ويختصمُ

المتنبي الذي لو لم يُعرف شاعراً لكان واحداً من أئمة اللغة، بما لديه من رصيد لغوي معروض في ديوانه.

فلا نستغرب مجيئه من العراق، إذ يقول محمود درويش:

الشِعرُ يولدُ في العراق

فكنْ عراقياً كي تكنْ شاعراً يا صاحبي!

كن عراقياً كالجواهري، الذي واكب العصر طيلة قرن كامل حتى رحيله عنا سنة 1997م.

الجواهري، بكلّ موروثه العربي والإسلامي والعراقي، كان قامة سامقة كأيّ نخلة عراقية تطرح رطباً جنيّاً لكلّ متذوّق، بل كان العراق متجسداً في شخصه، وهو القائل:

أنا العراقُ، لساني قلبُه... ودمي

فراتُه.. وكياني منه أشطارُ؟

هل رحل الجواهري؟  

يجيبنا بقوله:

باقٍ وأعمارُ الطغاةِ قصارُ

من سِفْرِ مجدكِ عاطرٌ موّارُ

باقيةٌ ذكراه عَطِرة، ومنْ رحل هم الطغاة قصيرو الأعمار.

عبد الحفيظ العمري
عبد الحفيظ العمري
عبد الحفيظ العمري
كاتب ومهندس من اليمن، مهتم بالعلوم ونشر الثقافة العلمية. لديه عدّة كتب منشورة إلكترونيا. الحكمة التي يؤمن بها: "قيمة الانسان هي ما يضيفه للحياة ما بين حياته ومماته" للدكتور مصطفى محمود.
عبد الحفيظ العمري