لماذا يغتالون الإنسان؟

لماذا يغتالون الإنسان؟

04 يناير 2021
+ الخط -

من خلف زجاج نافذة صغيرة بالطائرة وهي تحلّق وتقترب من أرض المطار، يطل رأسي بعينين واهنتين لتريا ألوان قوس قزح في الشوارع والميادين والمستديرات والأزقّة، لم يكن قوس قزح طبيعياً ينعكس على صفحة السماء أو الأرض.. إنّه مجموعة من الألوان المتعدّدة التي تصطبغ بها هياكل السيارات.. بالآلاف.

المنظر يكرّر نفسه مع الفارق.. فمنذ أكثر من عشرين عاماً كنت أطلّ من النافذة، ربّما في أوّل رحلة لي بالطائرة إلى الولايات المتحدة الأميركية، وبالتحديد من شهر يوليو/ تموز 1999، فتسحرني الألوان في الحقول التي يغلب عليها اللون الأخضر، لون الحياة في الربيع. في الصيف لون الأشجار وقد تشبّثت ببقايا الربيع.

في التسعينيات، الألوان تزداد وتتعدّد.. حُمر، صُفر، زُرق، خُضر، ومزيج من كل ذلك، ليست ألوان الزهور التي نشاهدها في حدائق الزهور، وليست ألوان ريشة فنان رسم لوحة زيتية جميلة.. كانت ألوان حضارة نهاية القرن العشرين. ألوان السيارات التي دفعت بها مصانع البلدان الصناعية، لتحل محل الشجر والبشر، ومن حولها ومن فوقها تقوم عمارات الأسمنت، كأشجار غابة في فصل الشتاء البارد.

السيارات بالمئات تكاد تجرفني بلا رحمة.. فلتتوقف أحداها إذن، فأنا فيها ومن داخلها أكثر أمناً وأقرب الى المعقول

الجو الصافي الذي اعتدناه قبل ثلاثين عاماً، وربما قبل خمسين عاماً.. تعكّر بالآزوت والمازوت وثاني أكسيد الكربون وغاز الرصاص القاتل، كل ذلك يشكل طبقة من الغبار العجيب المفعم بالسموم. طبقة مقيمة لا تغادر سماء المدينة، تضغط على صدورنا وجهاز التنفّس لدينا لتهدينا الموت بالتقسيط!.

ليس هذا ليلاً تهاوت كوكبة من التماع السيوف ساعة اغبرار جو المعركة.. وليست تلك الألوان الصناعية كتلك التي وصفها (أبو تمّام)، وغير أبي تمّام في النيروز عندما تصحو أكمام الزهر وتتفتح براعم الشجر.

وليست هذه العمارات الشامخة جبالاً تعبث في هامها الريح الصافية من أكدار الدنيا. وليس هؤلاء الناس الذين سألتقيهم بعد قليل، كأولئك الذين لا زلت أذكر ملامحهم في عهد الصبا، إنّهم اليوم أناس اصفرّت وجوههم عندما افتقدت كثيراً من أكسجين الدم على مذبح الحضارة الحديثة.

أين المهرب، وكل قرية أصبحت مدينة تضجّ بالحديد المتحرك ينفث سمومه كالحيّات الأميركية من ذوات الأجراس؟. من كان يتصور أو يتخيّل أنّ كل أسرة ستقتني عدداً من السيارات يساوي نصف أفرادها؟. ضجّت الطريق من عبء حِمْلَها الثقيل، وتمنت لو لم تكن طريقاً تئن على مدار الأيام.

ضجّت دائرة المرور من ازدحام المراجعين.. هذا يسجل وهذا ينقل ملكية، وهذا يطلب إجازة سياقة، وذلك يطلب تحقيقاً في حادث، وآخر يطلب موعداً للفحص الفني، وآخر يطلب من المستشفى شهادة وفاة على أثر حادث مرور. ضجّ المستشفى بصراخ الثكالى والفاقدين الصارخين على عزيز راح ضحية حادث مرور ولم يعد.

قسم العظام مسرحية عبثية لم يكتبها (صموئيل بيكيت)، الناقد والشاعر والكاتب المسرحي الأيرلندي، وإنما كتبتها يد الإنسان عندما اختار طريق الانتحار على الطرق بأسلوب رخيص ترفضه السماء والأرض.

(الكراجات) أكوام حديد وبيادر من هشيم الصفيح تنزف منها الملايين التي تصبّ في حفائر العدم واللاعودة. شركات التأمين، شبكات أو شباك بالمعاني الحقيقية أو المجازية يؤمّها المتضررون والصادمون والمصدومون لتضميد الجراح التي لا تبرأ بالمال أو التعويضات.
إعلانات الصحف مؤطرة بالسواد على شباب قضوا في عمر الزهور، تنعيهم كلمات الأسى والأسف والمواساة دونما طائل، لأن الميت ذهب ولن يعود!.

وكالات استيراد السيارات أشبه بدكّان (الحانوتي) الذي يهيئ نعوشاً وتوابيت من خشب "التيك" الذي يعتبر من أصلب أنواع الخشب، وأكثرها استقراراً بعد شغلها، فهنالك نماذج عاشت لمئات السنين دون أن يطرأ عليها تغيير يذكر.  التيك إنه الخشب المستورد من الهند، والغالي الثمن ليكتب على هذه النعوش والتوابيت (كلّ من عليها فان ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام).

أسواقنا العربية القديمة لم تعد تستقبل الشعراء والخيل والإبل.. إنّها اليوم تباع فيها أحدث موديلات السيارات التي فقدت أصالتها الغربية مع الاستيراد. معاطن الإبل، وحب الفلفل الذي أتى على ذكره (أمرؤ القيس) استحالت كلها إلى معاطن من نوع جديد تبركُ فيها الإبل الأميركية واليابانية والألمانية موسومة بخاتم المصانع الغربية.

الطلاب والشباب لم يعودوا يذهبون إلى مدارسهم بكيس مليء بالرقاع والقراطيس وأقلام الرصاص.. إنهم يذهبون بما خفّ حمله من الكتب، وبكثير من الميداليات التي تحمل مفاتيح الفارهات من خيول العصر الصافنات.

الطائرة حطّت على أرض المطار.. أيقظني صوت المضيفة ولم يوقظني صوت المحركات النفّاثة. فكرت أن أعود إلى منزلي ماشياً فطفقت أسير على رصيف ضيق ولو طال الطريق. أرتال من السيارات تمرّ بي وتنفث في وجهي دخاناً، وتخلّف في مسمعي لعنات عجلاتها المسرعة. عناد لا طائل من ورائه وسخافة ما بعدها سخافة. هروب حيث لا مهرب، وتجديف ضد التيار.. لا أحد يصرخ معي قائلاً إنّها (نقطة نظام)، كما يقال في مجال النقاش والجدل.

السيارات بالمئات تكاد تجرفني بلا رحمة.. فلتتوقف إحداها إذن، فأنا فيها ومن داخلها أكثر أمناً وأقرب إلى المعقول. تحدّثت مع أسرتي بلهجة متقطّعة، وطلبت منهم أن نفكر بصوتٍ عال ومسموع.. سيفي قصير يا أهلي وعشيرتي، قالوا بصوتٍ واحد: (تقدم خطوة، يُصبح سيفك طويلاً).

وهأنذا اليوم أتقدم بقلمي لا بسيفي، فتقدموا معي.

6C73D0E8-31A0-485A-A043-A37542D775D9
عبد الكريم البليخ
صحافي من مواليد مدينة الرقّة السوريّة. حصل على شهادة جامعيَّة في كلية الحقوق من جامعة بيروت العربية. عمل في الصحافة الرياضية. واستمرّ كهاوي ومحترف في كتابة المواد التي تتعلق بالتراث والأدب والتحقيقات الصحفية.