لماذا اشترط أفلاطون أن يكون الحكام فلاسفة؟

لماذا اشترط أفلاطون أن يكون الحكام فلاسفة؟

31 مايو 2023
+ الخط -

هناك فكرة جوهرية عند أفلاطون، نحفظها عن ظهر قلب، وكثيراً ما نردّدها على سبيل استظهار الأفكار، لكنّنا قليلًا ما نأخذها على محمل الجد، وقليلًا ما نفهمها على النحو الذي ينبغي. يتعلّق الأمر بالمبدأ القائل، إنّ الحاكم عليه أن يكون فيلسوفًا، أو، على سبيل التدقيق، ينبغي عليه أن يكتسب المهارات الأساسية التي تُنميها الفلسفة، والتي يُمكننا أن ندرجها ضمن مسمّى "الحسّ الفلسفي". 

لماذا؟ 

إنّ الذي يقصده أفلاطون بالحاكم بادئ الأمر، لا يقتصر على رئيس الدولة وحده، بل يشمل كلّ المدراء الكبار، وكبار القضاة، وأعضاء المجالس العليا لتسيير الدولة. وبالجملة، فمقصود القول، رجال ونساء الدولة عموماً. على أنّ مقاربة النوع هنا ليست مصادفة، بل هي من صميم رؤية أفلاطون إلى الدولة. وإن كانت طرائق تنشئة رجال الدولة ونسائها بالنسبة إلى أفلاطون بالغة الأهمية، فلأنّ الأمر يتعلّق بفئة صنّاع القرارات التي تؤثر في حياة ملايين الناس، وقد تؤثر بالنهاية في مصائر التاريخ ومآلاته. 

لعلّ السؤال المنسيّ ضمن مقاربة أفلاطون هو التالي: لماذا ينبغي على الحاكم أن يُنمّي الحسّ الفلسفي لديه؟ هذا السؤال له إجابة واضحة وراهنية أيضاً، ذلك أنّ الفلسفة تُنمّي أربع قدرات أساسية يحتاج إليها رجال الدولة ونساؤها قبل غيرهم:

أوّلا، القدرة على التحكّم في انفعالات النفس، ذلك أنّ رجال الدولة ونساءها هم المنوط بهم أن يحكموا الآخرين. على أنّ القاعدة الأفلاطونية الأساسية للحُكم تقول: من يرد أن يحكم الآخرين عليه أن يكون قادراً على أن يحكم نفسه أولا. معنى ذلك أنّ على الحاكم أن يكون قادراً على التحكّم في رغباته وانفعالاته، وبكلّ ما يعنيه ذلك من قدرة على التحكمّ في أهواء الغضب، والحسد، والطمع، والجشع، وما إلى ذلك من انفعالات قد تفسد جودة القرارات، بل قد تنتج قرارات كارثية أحيانا كما جرى في تجربة أحد أشهر طغاة الأرض، نيرون، ما يعني أنّ الحاكم ينبغي أن يكون حكيماً، طالما الحكيم اصطلاحاً هو من يحكم نفسه. إنّ كثيرا من كوارث السياسة نابعه من فشل القادة في التحكّم في انفعالاتهم.

القاعدة الأفلاطونية الأساسية للحُكم تقول: من يرد أن يحكم الآخرين عليه أن يكون قادراً على أن يحكم نفسه أولا

ثانيا، القدرة على التجريد العقلي، ذلك أنّ رجال الدولة ونساءها منوط بهم رعاية المصلحة العامة. غير أنّ المصلحة العامة ليست معطى حسّياً، بل مفهوم مجرّد يتجاوز مستوى الموجودات الحسّية، وبحيث لا يمكن إدراكه إلا بواسطة العقل النظري، وعن طريق التجريد، وذلك خلاف المصلحة الخاصة التي يدركها جميع الناس بحسّهم اليومي المشترك، ومن خلال الأشياء الحسّية التي تُحيط بهم كلّ يوم. كلّ إنسان يدرك مصلحته الخاصة بدون أيّ جهد نظري يُذكر، لكن المصلحة العامة تتطلب القدرة على التجريد، والتي هي من بين القدرات التي تنميها الفلسفة.

ثالثا، الوعي التاريخي، ذلك أنّ رجال الدولة ونساءها، باعتبارهم يرعون كائناً يعمّر قروناً طويلة، أو هكذا يُفترض، فإنهم يحتاجون إلى وعي مرتبط بالزمن على المدى الطويل، واللامحدود أحيانا. والواقع أنّ ضيق الأفق الزمني لدى بعض القادة لا يؤدي فقط إلى ضعف جودة القرار السياسي، أو ظهور نتائج معاكسة، بل قد يؤدي فوق ذلك إلى استفحال الخلافات السياسوية أو الفئوية التي قد تؤثر على مصائر الدول. هناك حقيقة مؤلمة ومهمة أيضا، ذلك أن لا شيء من مآسي التاريخ كان محتماً، كل المآسي التي حدثت كان بالإمكان تفاديها، كان يكفي أن يلجم أشخاص معدودون انفعالاتهم، حتى ولو كانت فرص النجاة تُقاس بالدقائق أحيانا.

إنّ كثيرا من كوارث السياسة نابعه من فشل القادة في التحكّم في انفعالاتهم

رابعا، القدرة على تحمّل نوائب الدهر، ذلك أنّ رجال الدولة ونساءها، بحكم مسؤوليتهم الأخلاقية عن استمرارية الدولة، ودورهم في تمكينها من التكيّف مع كلّ المنعطفات الحادة بقدر من المرونة، ينبغي لهم أن يكونوا قادرين على تحمّل ضربات القدر في إطار الحياة الشخصية، مثلما ينبغي لربّان الطائرة أو السفينة أن يترفّع عن كلّ مصائبه الشخصية طالما مصائر الناس بين أيديهم، وفي النهاية لا ينبغي للحاكم أن يستبد به جزع الموت، فإنّ بعض جذور الطغيان من ذاك الجزع. غير أنّ مثل هذا الاستنتاج لا ينطبق فقط على الحكّام، بل يشمل الناس أجمعين.

بقي أن نضيف: إنّ ما يقوله أفلاطون عن رجال الدولة ونسائها، يصدق اليوم على المواطنين كافة، في عصر الديمقراطيات، حيث يُفترض أن يشارك المواطنون، بهذا القدر أو ذاك، في صناعة القرارات المصيرية.

النصّ جزءٌ من مدوّنة "الفلسفة والناس" التي تتناول نصوصًا حول الأفكار الفلسفية، لكن بطريقة مبسّطة عبر استعراض أمثلة من حياة الناس وتجاربهم.
سعيد ناشيد
سعيد ناشيد
سعيد ناشيد
باحث مغربي في الفلسفة والإصلاح الديني، ورئيس مركز الحوار العمومي والدراسات المعاصرة (الرباط). صدر له عدد من الكتب، منها "التداوي بالفلسفة"، و"دليل التدين العاقل"، و"قلق في العقيدة" و"الوجود والعزاء". له مساهمات في بعض المؤلفات الجماعية، من بينها: كتاب بالإنجليزية تحت إشراف المستشرق البريطاني ستيفن ألف، بعنوان Reforming Islam:Progressive Voices From the Arab Muslim World، 2015.
سعيد ناشيد