عن اللغة والحقيقة والتفسير

عن اللغة والحقيقة والتفسير

13 أكتوبر 2022
+ الخط -

عند بذل الجهد المناسب والتمسك بالصبر وبالتدرب، يصبح بالإمكان السيطرة على ما نريد، السيطرة عليه وجعله طيعاً إن ظللنا نظهر له وبشكل دوري مقداراً من القوة يجعله يرضخ، جبرياً بالنسبة إليه، طواعية بالنسبة إلينا، وذلك وفق منظور فيزيائي على الأقل، ولكن هذا الكلام لا ينطبق على اللغة.

إن اللغة سلطانة عباسية لا ترى بشاعرها إلا عبداً خصياً لا يقوى في سلطانها إلا أن ينظم أدوار الجواري ويحرسهن. "لولو" خاص بالسلطانة، مهمته أن يرغي الصابون على ظهرها، ويمسد شعرها بعد أن يجف.

علاقة اللغة والحقيقة مع من يلاحقهما، شاعراً كان أم مفسراً، علاقة تواربية، لعبة "غميضة" سيزيفية، كلما انتهى المفسر من العد وجد نفسه يكرر العد من جديد حكماً، وإذا ما ضجرتا منه أو أشفقتا عليه وقررتا أن ينتهي من العد تختفيان كبرق التئم، أو قد تبقى اللغة واقفة مكانها ولكنها تخفي الحقيقة. تتوارى الحقيقة خلف اللغة، تختبئ في حوزتها، فتتحول اللغة من وسيلة الشاعر في تجسيد الحقيقة، إلى أم الحقيقة وحاميتها الحاجبة، ومن ثم هيهات أن يستطيعا الكشف.. إن فشل الوصول إلى الحقيقة مضمون في كلا الاحتجابين.

تصور الآن أن يحدث العكس: أن تحتجب اللغة ضمن الحقيقة وتتوارى بذاتها لتتجلى كلمات، أن تتحول مثلاً إلى شكلها الأرقى.. الشعر.

حينما تصير اللغة شعراً فتنسلخ عن الكلمات لتذوب في المساء المطل على شرفة القصيدة، أو تنساب من شقوق الحروف والإنشاء متمردة على أشكالها البدائية تلك ومزمعة الخلود كانطباع أو كتعبير، أو أن تستحيل دماءً ورصاصاً، أو جنيناً يهيم في رحم الفضاء، أو أعشابا تتمايل تحت سطح نهر دفق، أو حينما تستعير حلم أحدهم لليلة وتأخذه فتعرفه على الموت قبل أن تعيده جثة جميلة، أو أن تتجلى ذاكرة.. ساعة على جدار الزمن تعلك عقاربها أشباح الحاضر وتصنع منها بوالين مهيبة على شكل صورة، وحس، ورعب ممل.

الآن .. هنا، كيف تواجه الحقيقة، إلا بالإجرام؟

الردة

أنا مجرم يغوى رؤية الحقيقة، وأفضل ما أراها فيه أن تكون عارية: أتألم من مشاهدتها تتغلف بشعرية جميلة، أو تثخن خصرها بزنانير العبث، أو تتحزم بالواقعية المفرطة في اللامعنى، أو بالمنطق المفرط في لامعقوليته، أو حينما تتمنطق بالعنف وتزيد من سرعة حركتها ومن أفعالها ومن إثارتها، وتَزيد من النـقـلات.

ولأن كل شيء قابل للاشتعال إذا لم يعد من عزم ونية إلا العزم على الحرق، حينها ترجع كل أنواع الأقمشة الساترة الحقيقة إلى ما كانت عليه في الأصل: ذرات رماد.

ذرات رماد تهوي قطعانا على الأرض إذ نفخ مرجل الكشف النار فيها، فتسوى مع الهواء وتتطاير فوق الأكاذيب أو تحتها، أو تمتزج فيها لتشكل هذا الرداء - السمل الذي يغطي بدنها خجلاً حيناً أو حياء حيناً أو خوفاً، أو على سبيل التحاذق أو الملل، أو إخفاء لهشاشة أو ستراً لفشل.

ضاق الحكواتي ذرعاً بنفسه لكثرة ما حشاها بالانفعالات ولفداحة الأجواء الملحمية الضاجة بسير الأبطال وسبلهم

لطالما اغتوت الحقيقة نفسها عارية وما خشيت إلا أن نحجب أعيننا عن عريها الأصيل، وما أضامها إلا أن نتمنع عنها، وما أغاظها إلا الحمقى المتعصبون وغير الطيعين، وأولئك المتجاهلون:
أعوادُ قصبٍ أجسادهم
ومطحنة القصب الحقيقة
وعصير القصب أرواحهم
وأنتم ونحن الشاربون.

الحقيقة عاهرة

لا يرضيها إلا أن ترمي نفسك إلى حضنها اللدن - الوثير، بالنسبة إلى الفاجرين المحترفين المدربين، والضيق - الخشن، بالنسبة إلى نقيضهم من الكسالى المتوكلين - المنتشين بضوع خداع الحكايات القديمة، وبأبطال القصص الذكور المغرمين بذكور، وببطلاتها المتماثلات -، الكسالى المنتشين بعبق الخان أو المقهى القابعين فيه: من تطربهم روايات الحكواتي ويستمدون من مؤلفيها القيم والأصول من غير أن يلقوا بالا للغته التي يهشم الفشل مفاصلها وتعتلي أردافها أقزام الغلو وعمالقة الشطط وفرسان الحشو: هنا مصنع حقائقنا يا سادة يا كرام.

ضاق الحكواتي ذرعاً بنفسه لكثرة ما حشاها بالانفعالات ولفداحة الأجواء الملحمية الضاجة بسير الأبطال وسبلهم، وحين (فرّشته) الحقيقة لقدر ما عصت عليه وأيأسته، وسع المجال للمفسر طواعية، فجاء المفسر يقول: "أنا مجرم يغوى رؤية الحقيقة عارية وإن غابت عن عيني، أتخيلها في أحلام يقظتي، وأستمني خيالها كلما استطعت".

المراوغة عين الناس، والناس عين ألاعيبهم، وعين الألاعيبِ مفسروها أو رواتها أو حكواتيوها ممن يدعون التفسير: أولئك الظالمون الذين فوضهم أجدادنا من قبلنا أمور الترجمان والتأويل عن حسن نية ودروَشة، فترجموا الحقائق كيفما طاب لهم، وأوّلوا السرد بما آل إليه الحشد، فتكلفت الترجمة بأثقال الصوغ، وأشاح التأويل عن المسار.

دأب أجدادنا على غض النظر عن التردد اللحوح للمفسر - الحكواتي إلى شقة الحقيقة - الأرملة.

هجعوا إلى الليل وركنوا إليه، وذهبوا يدخنون الحشيش ويشاهدون عرض الحكواتي عن عنترة بن شداد، فأشبعهم بما أرادوا وطلبوا: شد أوتار الرغبة وشد حبال الانتباه وشد إليه الرجال، فاهتاجوا ثم أفلتهم، فسرحوا مغرقين، ثم اهتاجوا، ثم ارتخوا هامدين، ثم ضحكوا، ثم بكوا، ثم قالوا: هذا هو "الحق".

والحق أن هناك في دار الأرملة وبين إهاب المباخر وروائح العود والصندل، كان الحكواتي والحقيقة معا يتماجنان مسترقين من لهوهما وعبثهما أبيات القصائد التي سينشدانها بعد ظهر الغد على مسامع المريدين، والتي من خلالها سيسلك المريدون درب المعرفة، ولكن الآن - هنا، يضطجع أمير المفسرين تحت إبط الحقيقة التي ترفق ساعدها وأحاط علمه ومعانيه المستقاة، فوق سرير وثير مسوى من خشب الزيتون، ومنسوج فرشه بالخمائل الحمراء: يتدلى من بين أصابع الحقيقة عنقود عنب قطف من كرمة الكتب والأساطير المتوسطة البستان المحيط بدار الحقيقة.. تتلقفه الآن أسنان الأمير، يقضم من العنقود حبة، واثنتين، وعيناه جاحظتان جحوظ مدمن كبتاغون، تفترسان عنق الحقيقة، وتفعل في العنق ما ينوي العنق أن يفعل به: إنه مشهد استشراقي مألوف.

هنا.. هكذا تصنع حقائقنا.

أنا مجرم يغوى رؤية الحقيقة عارية، فالحقيقة سراب صادق يستحق المطاردة. وهم أصيل أصالة العهر والدنس. كلما ازدادت الحقيقة تيها زادتني رشدا.
في غموضها بيان. أوهامها صادقة. وأكاذيبها وقائع.

ومن أجل كل ذلك أطعن الآن فرس الوهم وأذبحه كرمى لعيني الفضول وأقدمه قربانا له؛ أو أقدم كأس شاي للفارس المفجوع، وأخبره أن ينتظرني إلى أن أجيئه بالمائدة العامرة بأعضاء فَرَسه المشوي والمحشية أمعاؤه رزا: كلا النهايتين جيدة درامياً.

D55DE373-721B-4026-A6D9-8F87AEDC703D
جاد الله قرموشة
كاتب، درس علم الاجتماع ويدرس الصحافة والإعلام في جامعة دمشق

مدونات أخرى