عن الإيمان والتعصّب

عن الإيمان والتعصّب

15 اغسطس 2023
+ الخط -

حينما كنت طالباً في كلية الدراسات الشرق أوسطية في جامعة أمستردام، كان ثمّة محاضرة بعنوان "التناقض في القرآن" كجزء من مقرّر دراسي، يقارن بين تاريخ الكتب المقدسة، التوراة والإنجيل والقرآن. شعرت بالضيق من عنوان المحاضرة رغم أنني كنت أصنّف نفسي حينها رجل حوار، شخصاً منفتحاً لسماع كلّ الآراء المختلفة عن قناعاتي، وخصوصاً في ما يتعلّق بالثقافة العربية والإسلامية. مع ذلك، اتخذت موقفاً دفاعياً من العنوان حتى قبل أن أطلع على محتوى المقالات المتعلّقة بالمحاضرة. وقرّرت أن أجادل أستاذة المادة في الموضوع، بناءً على افتراض منّي أنها وإن كانت أكاديمية وباحثة متخصّصة في الدراسات الشرقية والإسلامية، فإنها ستقف عاجزة أمامي أنا القادم من الشرق، والمنتمي للثقافة الإسلامية منذ ولادتي. ليس ذلك فحسب، إنّما لغة الموضوع الأصلية هي لغتي الأم، أما بالنسبة لها فقد تعلّمت اللغة العربية في سن متأخرة.

وبالفعل دخلت إلى القاعة الدراسية كمقاتل ذاهب إلى ساحة معركة. وبدأت الأستاذة باستعراض محاور المحاضرة، مرفقة بكلّ محور من المحاور الدراسات والبحوث الاستشراقية التي تستند إليها وردود مفكرين إسلاميين على ذلك. وبعد استعراضها لكلّ المحاور، قلت في نفسي إنه وإن كانت لغة الموضوع الأساسية هي لغتي الأم، إلا أنّ اللغة الرسمية للمحاضرة والبحوث العلمية المبنية عليها باللغة الإنكليزية. أيضاً الطلبة من جنسيات مختلفة ولا تجمع بينهم سوى اللغة الإنكليزية. إنها معركة غير متكافئة تماماً، فلغتي الإنكليزية، وإن كانت أكاديمية إلا أنّها ليست بمستوى دكتورة جامعية تنجز بحوثها وكتبها بهذه اللغة التي غدت لغة علمية جامعة. تراجعتُ قليلاً عن معركتي لكنني لم أستسلم. شرحت الأستاذة في المحورين الأول والثاني من المحاضرة أثر العنصر البشري للصحابة في ترتيب السور والآيات في القرآن الكريم، فأدركت أنّني أحتاج الوقت الكافي إن أردت الاعتراض على هذا الكلام، إذ يجب عليّ أن أنتهز فرصة مناسبة لأدلي بمداخلتي. فهي صاحبة السلطة على الوقت في المحاضرة، أما أنا فواحد من بين عشرات الطلاب، واحد لا يستطيع أن يأخذ أكثر من دقيقتين لسؤال أو لمداخلة صغيرة.

بيئة قمعية يتناقل الناس فيها عقائدهم بالوراثة وطقوسهم بالتقليد ويحرس هذا الإيمان واستمراريته التقادم لا فهم المسائل

أنهت الأستاذة الجزء الأول من المحاضرة وأطلقت سراحنا لاستراحة لمدة ربع ساعة. ذهبتُ إلى ماكينة القهوة في الطابق الأرضي، وأنا أفكر بماذا يجب عليّ أن أقول بمداخلتي اعتراضاً على أفكار المحاضرة. كنت أشعر بالتوتر لدرجة أنّني فكرت بأن لا أكمل هذه المحاضرة. عدنا أخيراً إلى القاعة وانتقلت الأستاذة إلى المحور الثالث الذي يشكّل الموضوع الرئيسي للمحاضرة. وبدأت باستعراض نظريات وآراء تدعم فكرة التناقض في القرآن. لم أعطِ الكثير من الأهمية لكلّ تلك الآراء الأكاديمية منها والفكرية، لكن المفاجأة كانت بالنسبة لي حينما استعرضت الأستاذة رأي الفقه الإسلامي بهذه المسألة القائل بالناسخ والمنسوخ. لقد كانت هذه المرّة الأولى في حياتي التي أسمع فيها بهذه المسألة، وأنا الذي ولدت لعائلة متديّنة وقضيت طفولتي ما بين المدارس الحكومية شتاءً وحلقات المساجد صيفاً. نشأت في بيئة إسلامية ثنائية الجدل بين السنّة والشيعة، وقضيت جزءاً من شبابي المبكّر في الزوايا الصوفية. أما على مقاعد جامعة دمشق، فقد درست في فرع الحقوق، والذي تشكّل الشريعة والفقه الإسلامي جزءاً أساسياً من مواد دراسته. في هذه اللحظة انسحبت من المعركة بعدما أيقنت بأنني لا أملك أدوات الدفاع، وقرّرت أن لا أناقش هذه الأستاذة، فهي تتحدّث في ما لا أعرف.

أنهت الأستاذة المحاضرة وفتحت المجال للأسئلة أمام الطلاب. وقف طالب يحمل ملامح المغرب العربي، ويبدو من لحيته أنه سلفي. اتفق مع ما ورد في المحاضرة من سرد تاريخي واختلف مع التفسير الاستشراقي للوقائع التاريخية. كان الشاب ملمّاً بالتاريخ الإسلامي، لا سيما الحقب الإشكالية منه ومسلّحاً بالفلسفة الغربية، فأجرى مع الأستاذة حواراً وديّاً هادئاً. ورغم أنه والأستاذة لم يتفقا في نهاية الأمر ببعض المسائل الجوهرية، إلا أنّ كلّاً منهما شكر الآخر على الإضافة الفكرية التي حظي بها.

البيئة القمعية خصبة لإنجاب متعصّب بائس، أما البيئة الحرّة فهي خصبة لإنجاب مؤمن باحث

 

شدّني الفضول للتعرّف إلى هذا الشاب فانتظرته عند باب القاعة وتمشينا معاً إلى الباب الخارجي للجامعة. لقد وُلد هذا الشاب في بيئة حرّة نسبياً يستطيع المرء أن يطرح فيها ما يشاء من الأسئلة، وأن يثير ما يريد من المسائل، فكان كلّ سؤال يطرحه على نفسه أو يواجهه من أحد، يحرضه على البحث والتفكير في أجوبة معقولة، وكلّ إجابة تفتح له الباب أمام أسئلة أعمق. لذلك حينما وجد نفسه في موقف يجب أن يناقش فيه إيمانه، كان جاهزاً لذلك. أما أنا فمولود في بيئة قمعية يتناقل الناس فيها عقائدهم بالوراثة وطقوسهم بالتقليد ويحرس هذا الإيمان واستمراريته التقادم لا فهم المسائل. مولود لمجتمع ينبذ الفرد إن فكّر خارج الصندوق، لذلك لم يثر أحد أمامي هذه المسائل من قبل، ربما جهلاً أو خوفاً. أذكر أنّ أوّل الأسئلة التي طرحتها في صغري عن الوجود قُوبلت بالاشمئزاز من الإمام في الحي والسخرية من مدرس مادة الديانة في المدرسة والتأنيب من الأب في المنزل. فقرّرت بعدها ألا أسأل حتى لا أبدو غريباً. فالتقدير الاجتماعي في البيئات القمعية يرتبط بمدى تشابه المرء مع أقرانه وأسلافه وتبني فكرهم بلا نقاش. وبالتالي فأنا، مثلي مثل الكثيرين من أبناء مجتمعي المقموع، مبني على اتخاذ ردّات فعل غريزية حينما يتعلّق الأمر بالمسائل الدينية.

لم يكن ما ورد في المحاضرة هو الدرس الجديد القيّم بقدر ما جرى خلال المحاضرة وبعدها من حوار داخلي أجريته مع نفسي، وأصبحت بعده أعي بشكل أكبر أثر البيئة الاجتماعية التي ولدت بها وترعرعت في ظلّها على تكوين مواقفي المسبقة وإدارة مشاعري تجاه الفكر. كان من المهم أن يحدث ذلك معي للتقليل من الأثر السلبي للبيئة القمعية عليّ مستقبلاً قدر الإمكان. فالبيئة القمعية خصبة لإنجاب متعصّب بائس، أما البيئة الحرّة فهي خصبة لإنجاب مؤمن باحث.