على جناح أبي الطيب (2)

على جناح أبي الطيب (2)

14 يناير 2021
+ الخط -

تقاطر الناس إلى مجلس أبي السعادات، كلهم تشوّف وتشوّق لمعرفة إعجاز المتنبي في بيته، ساعد على نشر هذا الهاجس تمنّع ابن الشجري، وتعلّله -المرة الماضية- بموعد طبيب أسنانه. ها هو أقبل تضيء أسنانه -بقوة الفينير- إضاءة اللمبة الفلورسنت، لا بل اللؤلؤ الطبيعي، وتعمّد بين الحين والآخر أن يبتسم لتبدو نواجذه بطلتها الجديدة.

قال أقرب الجلوس في القاعة ممازحًا: أين وقفنا في المجلس الفائت؟ تدفّق الرجل في الجواب ناسيًّا أن السؤال لمجرد الدعابة، وقال: وقفنا عند قولكم -قالها للتعظيم، ولا عظيم بحقٍ إلا الله وحده- بإسقاط المتنبي في بيته للمشبّه وحرف التشبيه، وذكرتم أن ذلك قصدًا لتحقيق الشبه، وضربتُم مثالًا عليه "لقيتُ فلانًا فلقيتُ حاتمًا جودًا، والنابغة شعرًا، والأحنف حلمًا، وإياس ذكاءً، وعمرو بن العاص دهاءً، وخالد بن صفوان بلاغة، ويحيى بن عبد الحميد كتابة"، وقبل أن يتمادى أشار إليه أبو السعادات أن أمْسِكْ؛ فكأنما قُطِع لسانه واندحر.

تسلّم أبو السعادات ناصية الحديث، وشكر -على مضض- الأخ الرَّغَّاء، وقال: "فأما استجازة جمع الشمس فلاختلاف مطالعها ومغاربها، وازدياد حميها وانتقاصه، وتغيّر ألوانها في الأصائل، ولذلك قالوا شمس الشتاء، وشمس الصيف، وشمس الضحى، وشمس الأصيل؛ فأضافوا إلى هذه الأشياء المتضادة وليس شمسٌ غيرها، ولذلك جاء في التنزيل (ربّ المشرق والمغرب)، أي مكان الشروق ومكان الغروب".

شكرت صديقي على هذه اللمحة الدالة، وحمدت الله أني لم أقاطعه وأخص بدعوى اختصاص الحديث بأبي الطيب، إذ قدّم لنا نقيضًا لما وقع من الشقندي، وفي التنوع إثراء وإفادة

وابتلع ريقه على عجل متابعًا خيط فكرته: وجاء في الذكر الحكيم (ربّ المشرقين وربّ المغربين)، أراد مشرق الشتاء ومغربه، ومشرق الصيف ومغربه، وجاء في الفرقان (بربّ المشارق والمغارب)؛ لأن للشمس في كل يومٍ مشرقًا ومغربًا غير مشرقها ومغربها في اليوم الذي قبله. وأما جمع الشمس، وسكت إذ قال أحد الهتّافين: (اللهم صلِّ على كامل النور، زادك الله من علمه يا مولانا)، وأراد ابن الشجري أن يتيح لهذا الهتّاف مساحة، ولا بأس بأن يسمع سيلًا من المديح بين الفينة والفينة.

بعدما هدأت فورة التابع، رجع ابن الشجري لما وقف عنده، وقال: أما جمع الشمس في الشعر القديم فنحو قول مالك الأشتر (حَمِيَ الحديدُ عليهِمُ فكأنَّهُ/ وَمَضَاتُ بَرْقٍ أو شُعَاعُ شُمُوسِ). وأما المعاني التي نزَّلهم بها منزلة الشمس؛ فمنها أن علو أقدارهم واشتهارهم في الناس كعلو الشمس واشتهارها، ومنها أن الانتفاع بهم كالانتفاع بضيائها، ونماء النبات بها، ومنها أن إشراق وجوههم وصفاء ألوانهم كإشراقها وصفائها.

مع الكلمتين الأخيرتين، مطّ ابن الشجري عنقه وتفرّس الجلساء، كأنما يبحث عن إبرة في كوم قش، وأشار إلى أحدهم ليخرج من المجلس. كنت قد التقيت بهذا المنبوذ في بعض المجالس، ولم أظهر معرفته درءًا لوجع الدماغ، وقد كان هذا الشاب الألمعي ابن الخشاب، وله مع أبي السعادات قصة، وكذلك لأبي نزار (الذي خلع على نفسه لقب ملك النُّحاة)، إذ فاقت صداماتهما مع ابن الشجري صدامات رئيس أحد الأندية المصرية مع خصومه، وإن لم تصل نبرة ابن الخشاب وملك النّحاة لما بلغته حنجرة سيادة المستشار.

تركنا المجلس ولكلمة الخراساني حلاوة وطلاوة، وحانت من صاحبي التفاتة، قال ألا أخبرك برجل ألمعي تفطّن إلى ما غفل عنه الشقندي؟ وكان صاحبي مولعًا بالاستطراد والتوسّع، فتركت له المسرح ليضيف ما شاءت له ذاكرته، ولم يخيّب توقعي، وأكد لي صدق حدسي فيه. مضى صاحبي يزيّن ما عنده من بضاعة، وقال لن نذهب بعيدًا، خرجنا من قرطبة، وسنحط رحالنا في مراكش عند ابن تومرت.

وموجز المسألة أن المسلمين أخرجوا ابن تومرت من مراكش، بأمر من السلطان؛ فخرج منها خائفًا يترقب، حتى نزل ضيعة يقطنها رجل يقال له إسماعيل بن يحيى الهزرجي (أبو إبراهيم)، وكان محبًّا لابن تومرت ويعرفه، وإن لم تجمعهما صحبة مباشرة ولا ضمهما مجلس يوطد علاقتهما، حب من دون مقابل، وهو الأبقى والأنفع.

لما دخل ابن تومرت مسجد الضيعة، وتهامس أهلها بقتله تقرُّبًا إلى أمير المؤمنين، وبلغ ذلك الهزرجي، فدخل على المُترَّبص به يريد أن يحذّره، لكن كيف؟ لو أدرك الناس أنه هرَّب ابن تومرت أو كشف له مخططهم، فلربما أنزلوا به العقاب وأكالوا له الصاع صيعان، وإنها لمسألة فيها من المجازفة الشيء الكثير. عقد الهزرجي عزمه على الحيلة، وراهن على ألمعية ابن تومرت.

دخل الهزرجي المسجد قاصدًا ابن تومرت، سلم عليه سلام الغريب، ثم سأله -وفي عينيه ما يُغني عن الإطالة- عن إعراب قوله تعالى "إن الملأ يأتمرون بك ليقتلوك؛ فاخرج إني لك من الناصحين"؛ ففهم ابن تومرت في التو واللحظة المراد، وخرج على الفور من المسجد تاركًا الضيعة قبل أن يفتك به أهلها، وهذا من لطيف النصح والتحذير.

شكرت صديقي على هذه اللمحة الدالة، وحمدت الله أني لم أقاطعه وأخص بدعوى اختصاص الحديث بأبي الطيب، إذ قدّم لنا نقيضًا لما وقع من الشقندي، وفي التنوع إثراء وإفادة. سرحت قليلًا، وخطر ببالي الفتح بن خاقان، وكان آية في سرعة البديهة وقوة الخاطر وجودة القريحة، وله مع أبي الطيب موقف لن ينساه ما تعاقب الجديدان.

وإن كانت بين ابن الشجري وابن الخشاب مناكفة، فالأمر ذاته وقع بين ابن خاقان وابن الصائغ، ولم يتمالك الفتح نفسه ولم يقع في ابن الصائغ في جلسة خاصة أو موقف عابر، إنما تلبّسته حالة انتقامية فقال في ابن الصائغ -ما يقال في الخمر- وعلى عينك يا تاجر في كتابه "قلائد العقيان".

وكان مما قاله فيه "ابنُ الصائغ رمدُ عين العين، وكمد نفوس المهتدين، اشتُهر سُخفًا وجنونًا، وهجر مفروضًا ومسنونًا، ناهيك من رجلٍ ما تطهّر من جنابة، ولا أظهر مخيلة إنابة، ولا استنجى من حدث، ولا شجى فؤاده مواراةً في حدث، ولا قرّ بباريه ومصوّره، ولا فرّ عن تباريه في ميدان تهوره. الإساءة إليه أجدى من الإحسان، والبهيمة لديه أهدى من الإنسان".

فكيف ردّ ابن الصائغ؟ ولماذا قال ابن خاقان: توسَّل بأبي الطيب وألقمني الحجر؟! هذا -وغيره- مدار حديثنا المقبل على جناج أبي الطيب.