على أمل

على أمل

14 ابريل 2023
+ الخط -

يحملنا الأمل ونحمله في أيامنا الروتينية، وبرغم تكرار سلوكياتنا اليومية إلا أنّ الأمل شعور أو خيال جميل يلازمنا طوال الطريق. فكثيرًا ما نسمع ونكرّر جملة "على أمل"، وهذا تعبير واضح وصريح عن الشعور بالملل والضجر والرغبة الملحة في التغيير. وإذا ما سألنا السؤال المتوّقع: ماذا نريد أن نغيّر؟ غالبًا سنحصل على الإجابة المتوقعة: الكثير.

 وهنا، سأناقش: كيف لنا أن نأمل من دون ملل.

لا يعلم اليأس من أنت، فهو بائع متجوّل ماهر، لديه العديد من العروض المغرية، كأن تجلس بلا حراك، تمشي بلا وجهة، تتكلّم بلا هدف، تكتئب، تنام كثيرًا بدون عمل أو تسكت.

منذ صغري، كنت أحلم بالجنون، وهذا أحد الأحلام الرائعة للهرب من مسؤوليات الحياة العديدة، فكما يُقال: لا ملامة عليه. وبمعنى أكثر دقة، لا أحد سيهتم لإنجازاتك أو سباقك مع الزمن الذي تمّ تجهيزه لك مسبقًا من قبل القالب المجتمعي الجاهز، بأن تتلقاه لتصبح فردًا فعالًا وناجحًا. ومع مرور الوقت، تتغيّر الأماني والأحلام والآمال، ففي سنتي الأولى في الجامعة، كنت أحلم بأن أصبح مبرمجاً عظيماً، وفي محاولة مني لأن أكون كذلك، دخلت تخصّص علم الحاسوب، ثم زارني اليأس مقدّماً لي عروضا مجانية من الاكتئاب المزمن، حينها فقدت الأمل في أن أصبح ما وددت. ثلاث سنوات من الاكتئاب، كانت كفيلة بأن تصل بي إلى ما دون القاع. "ماذا سأخسر أيضًا؟"، كان سؤال المرحلة.

الأمل بوظيفة ما أفضل، سفر قريب، الحرية وزوال الظلم، تغيير المؤسسات الاجتماعية والسياسية، التنوير والحضارة… كلها آمال قريبة إذا ما نظرنا لحالة المحكوم بالإعدام

وفي يوم عادي كأيّ يوم آخر، التقيت بصديقي الثلاثيني، ودار نقاش تشوبه العدمية تجاه كلّ ما يحصل في الحياة. وفي نهاية النقاش، قال لي: "أتعلم متى تسقط النظرية يا جهاد؟". قلت: "لا أعلم، ولست مهتمًا بإضافة نقاش نظري آخر". قال لي: "عندما تشتري ربطة خبز وتعود لابنتك الصغيرة. أنت الآن شاب ولديك متسع بأن تسقط وتحزن، ولكن، لا تقف وكأنك محور الكون، لا شيء يقف لحزنك". بدأت أهتم بما يثرثر، وقلت: "أكمل". قال: "لا تخطئ مثلما فعلت، وتحرّك". تذكرت حينها مقولة صديقي الستيني القارئ، والذي قال لي، ذات مرّة، عندما رآني مكتئباً: "أن تصل متأخرًا خير من ألا تصل أبدا". بدأت محاولًا أن أحلم من جديد، لم يكن سهلًا على شخص مكتئب أن يحلم، ولكني لست محورًا لأي شيء، ولا خسارة بما أفعل، فما الذي يضير بأن أحلم؟

ها هو حلم آخر في الأفق أطلّ عليّ. ماذا عنه؟ كاتب! فكرت به قليلاً ثمّ أعرضت عن التخصّص المشؤوم إلى تخصّص علم النفس والاجتماع. وبعد سبع سنوات، ها أنا الآن أتخرّج، وللمرة الأولى تحقّق لي حلم "التخرج"، ولعل أكثر كلمة مناسبة لما يجري هي: غريب! وهنا يأتي السؤال: لماذا نأمل على الرغم من وضوح انعدام التغيير؟

فإذا كنت ممن يؤمنون بالعلم وآراءه، يرى عالم النفس سيغموند فرويد أنّ هناك حالة تسمّى "وهم الإبراء"، ويشرح بأنّ السجين المحكوم بالإعدام، وحتى في أتعس ظروفه وآخرها، وهي التفاف حبل المشنقة حول عنقه، يحلم ويأمل بأن تحدث معجزة ويتحرّر من الأسر. من ذا الذي حاله أسوأ حالًا منه؟ نحن بالنسبة له حالة أقل بؤساً وبكلّ يقين، فالأمل في وظيفة ما أفضل، سفر قريب، زواج بحب ملحمي، الحرية وزوال الظلم، تغيير المؤسسات الاجتماعية والسياسية، التنوير والحضارة، ربطة الخبز، أو أن تصبح مليونيرا!. كلها آمال قريبة إذا ما نظرنا إلى حالة المحكوم بالإعدام.

الإنسان محكوم بالأمل ولا يستطيع التخلّي عنه، حتى في أحلك أوقاته

وإذا كنت شخصًا روحانيًا، يقول الشيخ محمد متولي الشعراوي، من منحى ديني إسلامي، لتفسير هذه الإشكالية، بأنّ شعار المؤمن يجب أن يكون "لا كرب وأنت رب"، بصيغة بسيطة، الأمل هو الركيزة الأساسية والحتمية التي تتكئ عليها إذا كنت مؤمنًا، ولا مكان لليأس، وإن كان ظاهر لنا بأنه كذلك، فالله يقول "فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً".

أما إذا كنت ممن يجيدون العدمية والعبث، وتكرّر سؤالك السحري: "ماذا بعد، فالموت نهاية حتمية؟"، لإنهاء نقاشاتك مع صديقك المتفائل، أو في حواراتك الداخلية، أو أفكارك التي تأتي في خضمّ مشهد سينمائي رومانسي، وتمجّد التراجيديا. فأنت على ما يبدو، وبالأغلب تشعر بأنك وحيد، وتفكر بأنّ تجاربك القاسية استثنائية لم يمرّ بها أحد، ولكنك لست كذلك؛ فهناك شجرة عند المنعطف الثاني في طريقك للبيت بعد يوم عمل ممل وشاق، اجلس معها أو لا تفعل، لديك عمل وهذا جيد. صديقك الثرثار الذي لا يكف عن الكلام حول علاقاته العاطفية، عائلتك التي تجتمع حولك أو أنك لا تراها؛ لديك عائلة. ولك نفسك أيضا، ولك الله وهو الأهم. وهناك العديد، وليس لديّ متسع في هذه التدوينة لأملي لك بها جميعها، فقد حان الوقت لأن تبدّل نظارتك وتستبدلها بأخرى، وبكل تأكيد أنت أفضل حالًا ممن على عنقه حبل مشنقة.

وفي هذا السياق، قال عالم النفس الفرنسي هنري بيرون إنّ "المتشائم أحمق، يرى الضوء أمام عينيه، لكنه لا يصدق". فالإنسان محكوم بالأمل ولا يستطيع التخلّي عنه، وحتى في أحلك أوقاته؛ فالأماني والأحلام قريبة إذا ما ذهبنا إليها، وسعينا من أجلنا، فنحن سنبقى على أمل أن يحدث شيء يغيّر كل شيء، ولكن هذا بحاجة إلى تقدّم. ولكن، إن لم يتغيّر شيء، فنحن على أمل.

جهاد سمرين
جهاد سمرين
حاصل على شهادة بكالوريوس في تخصّص علم النفس من جامعة بيرزيت. محبّ للتجربة والتساؤل والفلسفة، مُعبّر عنها في بعض من قصاصات الورق المكتوبة، أو في مخيلتي أو في حوار عابر مع أحد الأصدقاء. يعرّف عن نفسه بقول لمحمد إقبال "ليس منتهى غاية الذات أن ترى شيئًا، بل أن تصير شيئًا".