صمت المحكمة!

صمت المحكمة!

21 مارس 2021
+ الخط -

كانت بوادر الخير بادية على وجهه المتغضّن، وكان حاداً في طبعه، وهو الذي عاش حياة كريمة في كنف والديه في ظلّ أسرة كريمة توصف بالود والاحترام، وتتمتع بمكانة اجتماعية لها وزنها ومكانتها.

قدره هكذا، ولد ليكون مشاغباً، فهو آخر الشباب المحترمين، هذا ما عرف عنه وهو في حقيقة الأمر لم يكن كذلك.. فالأسرة التي ينتمي إليها والنبل والأخلاق والأصالة والطيبة التي تتحلى بها كافية لأن تخلق منه وجهاً محبوباً، وقلباً كبيراً يحب فعل الخير ويدل عليه. فهو في الواقع غير الصورة التي كنا نراه عليها، وكما يبدو أن علاقاته الشخصية مع الآخرين هي من جعلت منه إنساناً غير مرغوب فيه، فشخصيته ترثي أوجاعا كثيرة، إنها باقية وتلخص أوجاع المجتمع الذي يعيش فيه. كل من كان يلتقيه ينظر إليه على أنّه إنسان صعب المعاشرة.. وفي صورته تقرأ، لأول مرة، ألواناً مقزّزة من العدوانية والخداع، فهو منبوذ من قبل الجميع، وكل من يعاشره يلتمس فيه ذلك الوجه المشين، منذ اللحظات الأولى، ما يعني أنها صارت تشكل بالنسبة للأهالي جانباً من المقت والفزع وعدم الرغبة في معاشرته، وكانوا يرجون الله أنه لو أكمل طريقه بعيداً عنهم!

كل من سمع به، أو تحدّث عنه تمنى من الله أنه لو تجاوزه وأبعد عن طريقه، على أن يتركه وحيداً لا يلتفت إليه. صفات اللعنة والخبث وحدهما تهيّجان كل من صار يسمع به، لمجرد السمع!

خفت صوت المحكمة، وأصبح صامتاً، وقضاتها صاروا مسلوبي الإرادة لم يعد لهم مكانتهم، فأصبحوا مجرد قوّامين على إدارة فقد الناس ثقتهم بها، ولم يعد أحد يأخذ بقراراتهم الظالمة

سمير، ذاك الشاب الوسيم، ابن الرابعة والعشرين عاماً، هذا هو اسمه، والذي طالما كان يقف على باب منزله في أحد الأحياء الشعبية الفقيرة في المدينة التي يسكن فيها ما بعد صلاة العصر إلى ما بعد منتصف الليل مع عدد من رفاق السوء، أصدقاء الطفولة والحارة، والذين يكنون له محبة خالصة ويخلصون له في تنفيذ أوامره، وما يرغب في تحقيقه مهما كلفه ذلك من جهد ووقت ومال، لمجرد أن أعطى اشارة منه  فإن أمره يجب أن يطاع من قبل أصدقائه، سند ظهره، الذين يلازمونه ليل نهار، وهم كثر، وإن كانت مواقفه سلبية تجاه الناس، ويهابون جانبه ويخافونه إلّا أنّه في نفس الوقت طالما يكون لحضوره جانب مفرح وإيجابي في كثير من المواقف التي تواجههم، وتعترض مسيرة حياتهم وهم غير قادرين على حل مشكلاتهم.

ما يعني أنه يلزم تدخل سمير الفوري، ولو بالقوة، لحل معضلة قائمة وهذا ما كان يحدث مع كثير من الأهالي، فنراه يقضي جلّ وقته في الوقوف على حل مشكلاتهم "العويصة"، وفي كثير من الأحيان يكون لحضوره بادرة تفرح القلوب، وتمسح عنهم الكثير من علامات الحزن وآلامه، لا سيما أنه استطاع أن يلبي حاجة ورغبات الفقراء وتحقيق أحلامهم في الوصول إلى تأمين ما كان يرغبون فيه، وبكل سهولة، لمجرد أن علم بفحوى مشكلة ما عرضت عليه، بعد أن فقد أغلبهم الأمل في التمكن من القدرة على تحصيل حقه المسروق بالقانون والذي لا يمكن أن يسترجع إلّا باستعمال القوّة.

القوة وحدها هي التي يمكن أن تعيد للناس حقوقها ولولاها لما تمكن سمير من أن يحقق رغبات هؤلاء الناس الذين يزورونه للوقوف على شكواهم. وكل هذا يحدث في ظل إدارة حكومية قائمة، وتعرف تماماً ما يجري ويدركون أن ما يقوم به سمير هو عين الصواب، فهو يعمل على إعادة الحقوق المنتزعة إلى أهلها، وإن كان بالقوة. إنه ذاك الشاب الوسيم الذي لا يخاف أحداً، وهو رغم ذلك لا يتجاوز ما رسمه القانون من مواد، ناهيك عن التعليمات الحكومية التي تلي إصداره.. فهو يقوم بعمله بما يرضي الضمير والوجدان، ويقوم على إعادة الحقوق المسلوبة والضائعة إلى أهلها مهما كانت ما جعل حضوره في المدينة التي يقيم فيها مكانته بشخصه المتواضع، وبالكاد أنه كان يستفيد شيئاً من قبل هؤلاء الذين يتمكن من إعادة تحصيل حقوقهم المفقودة.

دَوَت سمعة سمير في أرجاء المدينة التي يقيم فيها، وصار تخافه الناس وتحسب حسابه، وعاده الكثيرون ممن يبحثون عن استعادة أرزاقهم المنهوبة التي لم يسبق لهم العودة بها إلى أحضانهم لأنهم كانوا فقدوها إلى الأبد.. ففرح الأهالي واستمتعوا، وبدأوا بشكره على جرأته وقدرته على إحقاق الحق والدفاع عنهم بتأمين ما سبق أن سلب منهم.. وكان من بين الأشخاص الذين تمكن سمير من أن يحول حزن يوسف العلي إلى فرح وانتعاش يملي عليه رغبته بحب الحياة بعد أن كره الساعة التي ولد فيها جراء عملية النصب والاحتيال التي وقع فيها من قبل صديق طفولته مهيار، فقد تمكن من أن يعيد له مبلغاً كبيراً من المال بعد أن فقد الأمل لقاء ذلك رغم الشكاوى والدعاوى القضائية التي تقدم بها إلى المحكمة، والانتظار الطويل الذي لم يفلح معه في الوصول إلى حقه الذي حاول بكل إمكاناته لأن يعيده إلّا أنّه عجز عن ذلك!

كانت ثقة يوسف بمهيار لا حدود لها، وهما الصديقان المحبان لبعضها البعض، فقد بادر يوسف بتقديم يد المساعدة لصديقه مهيار قبل حوالي ثماني سنوات، ودفع له مبلغ ثمانمائة ألف ليرة سورية على أن يقوم بإيفائه المبلغ بعد شهرين من بعد الانتهاء من حصاد موسم القمح، وانتظر يوسف مطولاً ولم يدفع مهيار المبلغ الذي أنكره عليه في ما بعد رغم أن الكثير من المعارف والأصدقاء المقرّبين يعرفون ذلك، ما اضطره إلى التقدم بشكوى إلى المحكمة التي لم تستطع الوقوف على مشكلته التي امتدت سنوات بدون أي حل يلوح في الأفق.

وسمع يوسف بقدرة الشاب سمير على تحصيل المبلغ الذي بذمة مهيار بعد أن فقد الأمل بتحصيله فذهب وتقدم بشكواه إلى السيد سمير الذي رحب به وتمكن خلال فترة قصيرة من تحصيل المبلغ كاملاً ودون نقصان، وهذا ما أفرح يوسف الذي دفع مبالغ إضافية بشأن الدعوى التي دفع بها للمحكمة، فضلاً عن أتعاب المحامي التي تجاوزت أكثر من مائة ألف ليرة سورية.

أفعال سمير الخيّرة، مكنته من التعاون مع أصدقائه ومعارفه، والصورة الجميلة التي رسمت له تركت بصمة رائعة ما زال الناس يتغنون بها ويتذكرونها، ومواقف الشاب سمير لا يمكن أن تتكرر اليوم مع الأسف، بعد أن ظهر للساحة العديد من أمثال الصورة التي ظهر بها سمير وغيره!

هؤلاء النصابون والمحتالون، من المؤسف أن أغلبهم من الأصدقاء والمقربين، تمكنوا من أن يظهروا للناس محاسن أعمالهم في البداية وفي الواقع ما هم إلّا ثلة من الأشرار استطاعوا، وبكل خفة الضحك على عباد الله، وتحقيق غايات وأهداف ومكاسب مالية بعيداً عن خدمة الناس البسطاء الذين ما زالوا يعانون من ظلم القضاء و"سفسطائيته" المبتذلة، ومن طول أيام التقاضي، في ظل التغاضي عن أغلبها، ما يعني أن ألوانا عديدة من الفوضى دبّت في مفاصله..

وكان الحل الأسلم للوصول إلى حقوق الناس من خلال التواصل مع أشخاص لهم سلطتهم وهيبتهم ومكانتهم، ويخافهم الغير.. فخفت صوت المحكمة، وأصبح صامتاً، وقضاتها صاروا مسلوبي الإرادة لم يعد لهم مكانتهم، فأصبحوا مجرد قوّامين على إدارة فقد الناس ثقتهم بها، ولم يعد أحد يأخذ بقراراتهم الظالمة!

6C73D0E8-31A0-485A-A043-A37542D775D9
عبد الكريم البليخ
صحافي من مواليد مدينة الرقّة السوريّة. حصل على شهادة جامعيَّة في كلية الحقوق من جامعة بيروت العربية. عمل في الصحافة الرياضية. واستمرّ كهاوي ومحترف في كتابة المواد التي تتعلق بالتراث والأدب والتحقيقات الصحفية.