سنة جديدة لقوم قدامى

سنة جديدة لقوم قدامى

30 يوليو 2023
+ الخط -

التهاني والتبريكات بحلول العام الهجري الجديد لن تجعل منه عاماً سعيداً، لأن التغيير يكون في الإنسان وليس في التقاويم، فهذه الأخيرة بريئة لا تغير شيئاً.

ولا ننسى أن التقويم مجرد اصطلاح اتفقنا عليه نحن البشر، بهدف واحد هو معرفة الزمن، ذلك المراوغ إلى حد الوهم!

لذا نجد كل حضارة لديها تقويم تقريباً؛ فهناك الهجري والميلادي والفرعوني والسبئي وغيرها.

وليست المشكلة في وجود التقاويم أو عدمها، بل المشكلة فينا نحن العرب، الذين نحب الشكليات بشكل فظيع، وننتهز كل مناسبة، وأي مناسبة، لنصنع منها مظاهرة كي نتبادل التهاني، ولو لم تكن هناك مناسبة لاخترعناها.

ودعوني أتساءل: ماذا صنعنا في العام الهجري 1444 حتى يكون عام 1445 مميزاً؟

الإجابة معروفة!

المزيد من كوارثنا المتفاقمة مثل متسلسلة هندسية متزايدة، تطوف هذه الجغرافية المظلمة الممتدة من الخليج إلى المحيط، المسماة الوطن العربي الكسير لا الكبير!

وأضحك من لفظة (مميزاً)؛ وأقول: أي تميّز سيكون؟!

يبدو أن اللفظ سيتداخل مع الفعل المضارع (تميّز) المذكور في سورة تبارك؛ إذ يقول الله تعالى عن جهنم: }تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ{ ]الملك: 8[، والذي يعني أنها تتقطع من الغيظ.

أظن العام القادم (سيتميّز) غيظاً منا ومن أفعالنا.

وأعود للتساؤل: ما هي بشائر التميّز على هذه الجغرافية المنسية؟

إني أجد العكس من ذلك؛ فما كنتَ تستطيع عمله في عام 1444 ربما لا تستطيعه في عام 1445، ضمن قوانين الإنتروبي العربية، واليمنية منها خاصة!

ولمنْ لا يعرف الإنتروبي Entropy، فهي مقياس للفوضى التي تحدث في أي نظام فيزيائي، إذ ينص القانون الثاني من قوانين الديناميكا الحرارية: "في أي نظام فيزيائي معزول تزداد قيمة الإنتروبي بمرور الوقت"؛ لذا تجد سيارتك، عزيزي القارئ، يعلوها الغبار عندما تتركها فترة في المرآب، وستزداد فوضى غرفتك بمرور الوقت، إذا لم تقم بترتيبها، وهكذا تسير الأمور..

ليست المشكلة في وجود التقاويم أو عدمها، بل المشكلة فينا نحن العرب، الذين نحب الشكليات بشكل فظيع، وننتهز كل مناسبة، وأي مناسبة، لنصنع منها مظاهرة كي نتبادل التهاني

فدولنا العربية ذات قيمة إنتروبية عالية، وتزداد بمرور السنوات.

وللتخلص من هذي الإنتروبي المتضخمة، تجدنا نهرب إلى اللغة لمغالطة أنفسنا؛ إذ يقول لي صاحبي: قُلْ عام 1445 ولا تُقلْ سنة 1445، لأن العام للخير والسنة للشر، واستشهد بقوله تعالى، في سورة يوسف: } قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ * ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ * ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ { ]يوسف: 47-49[.

قلتُ: لا غبار على الاستدلال، بيد أن للقرآن الكريم خصوصية في الاستعمال، وقد استعملت العرب لفظة (عام) مكان (سنة)، والعكس، بعيداً عن مدلول الخير والشر، ألم يقل أبو تمام:

أعوَامَ وَصْلٍ كانَ يُنْسِي طُولَها ... ذكْرُ النَّوَى، فكأنَّهَا أيَّامُ

ثُمَّ انْبَرَتْ أَيَّامُ هَجْرٍ أَردَفَتْ ... بِجَوىً أَسىً، فكأنَّها أعْوَامُ

ثمَّ انقضتْ تلك السنونُ وأهلُها ... فكأنَّها وكأنَّهُمْ أحلامُ؟

لاحظ أن لفظة (أعوام) قد تبدلت في مدلولها في البيتين الأوليين بين الوصل والهجر، ثم ذكر السنين في البيت الثالث كدلالة على الزمن لا غير.

وهناك تخريج آخر، أن العرب تستعمل العام للدلالة على حدث ما، والسنة للدلالة على التاريخ؛ قال أبو هلال العسكري في كتابه (الفروق اللغوية): "ويجوز أن يُقال العام يفيد كونه وقتاً لشيء، والسنة لا تفيد ذلك، ولهذا يُقال: عام الفيل، ولا يُقال سنة الفيل، ويُقال في التاريخ: سنة مائة وسنة خمسين، ولا يُقال: عام مائة وعام خمسين، إذ ليس وقتاً لشيء مما ذُكر من هذا العدد، ومع هذا فإن العام هو السنة والسنة هي العام، وإن اقتضى كل واحد منهما ما لا يقتضيه الآخر مما ذكرناه، كما أن الكل هو الجمع والجمع هو الكل، وإن كان الكل إحاطة بالأبعاض والجمع إحاطة بالأجزاء".

ليكن عام أو سنة 1445، أو ما شئتَ أن تسميها، المهم لمَنْ؟

إذا كنتَ تتحدث عن بني قومي العرب، فسيكون عاماً جديداً لأناسٍ أكَلَ عليهم الدهرُ وشرب، وستكون سنة جديدة لأناسٍ لا جديد لديهم إلا القديم والأقدم!

أما خارج أرض الموات هذه، فلهم سنواتهم وأعوامهم وتقاويمهم، وكلٌ في فلك يسبحون..

***

عبد الحفيظ العمري
عبد الحفيظ العمري
عبد الحفيظ العمري
كاتب ومهندس من اليمن، مهتم بالعلوم ونشر الثقافة العلمية. لديه عدّة كتب منشورة إلكترونيا. الحكمة التي يؤمن بها: "قيمة الانسان هي ما يضيفه للحياة ما بين حياته ومماته" للدكتور مصطفى محمود.
عبد الحفيظ العمري