زوربا والمعلم أو العقل مقابل الغريزة

زوربا والمعلم أو العقل مقابل الغريزة

08 يوليو 2023
+ الخط -

اقتنيت كتاباً لفرويد يحمل عنوان "الغريزة والثقافة"، قرأته بسرعة في إحدى العطل الصيفية، ولم يكن محتوى الكتاب يختلف عن باقي أفكار فرويد المعروفة، حول الجنس والعصاب، علاقة الأطفال بالآباء، مع مقالة في الأخير عن الحرب والسلم، وكلّ ذلك من وجهة نظر التحليل النفسي.

 وضعت الكتاب فوق قائمة الكتب المقروءة، ومضيت أقرأ كتباً أخرى، ثمّ مرّت سنتان تقريباً قبل أن ألتفت إلى عنوان الكتاب من جديد (الغريزة والثقافة)، حيث بقيت لبرهة أتأمله، لأكتشف أنّي لم أقرأ الكتاب بعناية كاملة، وعليّ إعادة قراءته من جديد، لأطرح سؤالاً فلسفياً، طالما شغل العلماء والفلاسفة لقرون: أيّهما يحكمنا، الغريزة أم الثقافة؟

في روايته "زوربا اليوناني"، يقارب الكاتب نيكوس كازانتزاكيس، الموضوع ذاته في جانبه القيمي، من وجهة نظر الأدب. ومن المؤكد، أنّ شخصية "زوربا" في الرواية، شخصية حقيقية، التقاها الشاعر والمفكر اليوناني المعروف، وذلك في أثناء عمله في أحد المناجم. وكما يبدو من ملامح الشخصية التي رسمها لزوربا داخل الرواية، فإنّه لم يكن يعرف القراءة ولا الكتابة، كان رجلاً يعيش على الطبيعة، ولهذا كانت فلسفته تختلف عن شخصية المعلم، الذي ولا شك أنها ملامح المؤلف الذي يلعب دور الراوي في الرواية، حيث كان كما يصفه "زوربا"، شاباً مثقف لا يتوقف عن التهام الكتب، ولذلك فهو لا يجرؤ على فعل شيء ما، من غير أن يكون فعلاً عقلانياً، ويحترم قيم المجتمع ومبادئه، وهذا ما لم يكن يتفق معه فيه "زوربا اليوناني".

لم يكن الكاتب نيكوس كازانتزاكيس مجرّد أديب مرهف الحس، بالغ العبارة فقط، بل كان حادّ الذهن وقّاد القريحة، كذلك فإنّه كان فيلسوفاً. كيف لا؟ وهو الذي كان يعشق الفيلسوف الألماني ذائع الصيت، فريدريك نيتشه، بل كان من أشدّ المعجبين به، وهذا ما دفعه إلى تسجيل أطروحته الجامعية، عن فلسفة نيتشه، كذلك، كان المشرف على أطروحته الفيلسوف المعروف، هنري برجسون، غير أنّ اهتماماته ستنصب على الأدب أكثر من الفلسفة، والأدب الذي كتبه لم يخلُ من الأسئلة الفلسفية الكبرى عموماً، وربما هذا الذي خلّد أدبه، وخصوصاً روايته ذائعة الصيت، "زوربا اليوناني"، ثمّ "المسيح يُصلب من جديد".

الحل عند البعض، يكمن في أن نشبع الغرائز، لا أن نكبتها، إذا ما أردنا حياة نفسية سليمة

لنعد الآن إلى فرويد وحديثه عن الغريزة والثقافة، فهل كان فرويد يرى أنّ العقل والثقافة هما اللذان ينبغي أن يحكما الإنسان، أم أنّ الغريزة هي التي يجب أن تقوده، حسب نظرية التحليل النفسي؟ يمكن الإجابة عن هذا الأمر، بالقول إنّ الغريزة هي التي تقود الإنسان، وهذا ما جعل اسم فرويد يخلّد حتى الآن، قبل أن يُكتشف أن لا دلائل علمية على ما قاله، في تقسيمه المشهور (الأنا، والهو والأنا الأعلى)، فإذا كانت الأنا الأعلى تتكون من قيم المجتمعات وعاداتها، والأنا ذو طبيعة نفسية، فإن الهو ذو طبيعة بيولوجية. وحسب رأي فرويد، فإنّ العصاب يأتي من كبت الأنا للرغبات الكامنة في الهو، الذي هو ذو طبيعة بيولوجية، ويتكوّن من غريزتين: غريزة الحياة، وهي الجنس، وغريزة الموت وهي العدوان، وبالتالي فالحل يكمن في أن نشبع هذه الغرائز، لا أن نكبتها، إذا ما أردنا حياة نفسية سليمة.

للأسف هذه النظرة للقيم لم تكن سائدة في التحليل النفسي فقط، بل كانت تعرفها عدّة تيارات، حيث بدأت الانتكاسة تصيب الحداثة، وهو ما عرف بعصر نهاية الأخلاق، وهذا يعني انتصار الغرائز، تلك التي يدعو لها زوربا، منتصراً للجانب الوحشي من الإنسان على الجانب العقلاني، وكلّ ذلك والمعلم مندهش أمامه، ليؤمن بقيم لا وجود لها في الواقع، ويكتشف في آخر عمره أنّه كان مخطئاً، وأنه كان ينبغي له أن يعيش الحياة مثل "زوربا"، الذي يطلق العنان لغرائزه من دون وخز الضمير، حتى إنه، حينما وافته المنية، مات مثل وحش بري، غير نادم على ما فعل.

سفيان
سفيان الغانمي
باحث في الفكر الإسلامي، حاصل على الإجازة في علم النفس، وباحث في سلك العالمية العليا التابع لجامع القرويين بفاس، مدون مهتم بالفكر والأدب. يعرّف عن نفسه بالقول: "حبر الطالب أقدس من دم الشهيد".