تراتيل الموت 3: العجز والبث

تراتيل الموت 3: العجز والبث

16 اغسطس 2022
+ الخط -

لعل قلة حيلة الإنسان بتغيير الحقائق أكثرُ ما يشعره بالعجز، وبالحقائق أعني الحقائق المطلقة لا الحقائق الظرفية التي تزول إذا زالت أسبابها، ولعل أكثر الحقائق ثباتًا هو الموت، فكون الإنسان حيًا يروح ويغدو يعني بلا شك أنه يومًا ما سيموت..

ونرى أن قيلة حيلة الناس في الأمور تدفعهم إلى البوح وبثّ ما يجدونه في صدورهم، فالصبيّ يبكي بثًّا لما في صدره عندما لا يستطيع أن يتناول حلواه لأن أمه منعته، وكذلك كل البشر، فإنّ أشجى ما يحسه الإنسان يكون عند الفقد، فترى النّاس يبكون كالمجانين، غير آبهين بهيبةٍ علت وجوههم في أيامٍ غابرة، ولا بالغرباء من الحضور وقت الفجيعة، فيلبسون حُللَ هوانٍ غير الحلل السابقة، وتعلوهم ملامح تزريهم غير تلك التي علتهم في وقت الرخاء والسعة.

ومن الناس من آتاهم الله قريحةً فذة، استطابوا استعمالها للبوح عما اختلج في نفوسهم من مشاعر، فيسلّون أنفسهم من الصدمة بالرثاء بأجمل صور الكلام من الشعر والنثر، وأعطر صيغ الترحم والاستغفار للميت، ويستمرون في ذلك ذاكرين مذكرين بكل صولةٍ صالها الميت، وكل ارتقاء له، وكل طُرفةٍ أتى بها.

لا أعرف لمَ سمى العرب الشِعر شِعرًا، غير أني أحب أن أصدّق أنهم سموه كذلك لأن أصحاب القرائح منهم إنما استعملوه للبث عما في نفوسهم من مشاعر، سواء كانت الفخر بفروسيّةٍ وفتك، أو كانت هُيامًا أصاب الشاعر، وأن الشّعر تجسيد للمشاعر في قوالب اللغة.

 

وفي الشّعر، نرى أن أرفعه وأكثره بهاءً هو ذاك الذي يدغدغ قلب المتلقّي، ويقال إن هذا سبب إطراب كلمات المتنبّي من بهم صممُ، وذلك أنه تحدّث عما يعيشه النّاس، كما أن أبا الطيّب بثّ في أشعاره ما في نفسه من مشاعر، فهو يرى نفسه خليقٌ أن يعيش بغير زمانه، وأنه أعلى منه درجة، وقيل إنه في مدحه الملوك إنما كان يلقي عليهم حُلل القيم التي يراها في نفسه، وإنه عندما يمدح إقدام ملكٍ إنما يمدح إقدامه أو ما يرى مما وجب عليه أن تكون حال الملوك.

ونرى أيضًا أن أصحاب العشق يميلون للغزل العذريّ لِما يحكيه من أحوالهم وأحوال أصحاب هذا اللون من الشعر، وهم أيضًا -العذريين- إنما يبثّون ما في صدورهم ما عجزوا عن التعبير عنه بأي حديثٍ للنفس، أو مناجاةٍ لقريب، وقد قال أبو حزرة -على أنه ليس عذريًا-:

لقد كتمت الهوى حتى تهيّمني، لا أستطيع لهذا الحب كتمانا.

أما أعذب الشّعر وأصدقه وصفًا لما في القلوب من لظى، وكأنه هو الشعر الذي يحكي نفسه، هو شعر المراثي، فترى أصحاب المراثي التي اشتهرت يلبسون وشاحًا غير أي وشاحٍ لبسوه في باقي أشعارهم، وكأنهم انتقلوا طورًا في الشعر ليس يُبلغ إلا بالرثاء الصادق، ولا أعلمُ شعورًا أقسى على الإنسان من قلة الحيلة، فالوصية الوحيدة كما قال أبو فراس: "أوصيك بالحزن لا أوصيك بالجَلَدِ".

 وأقصى ما تكون قلة الحيلة في طلب المستحيل، وإحياء الميت بعد أن يسكن جسده أبعد حتى من بعض المستحيلات، فيعمد المفجوع إلى البث عما يدور في خلجات صدره بالقول، ثم ما يلبث أن يلبسه فستان الأدب الذي لا يعلو عليه إلا كلام الله والنبيين، فيُجمِّل رثاءه بجمال الأدب، فيلمس القارئ الكلمات لمسًا، وتتخذ من قلبه سكنًا لا تفارقه، وإذا كان سماعًا فهي تستوطن عقله تدور في جوفه تحكي نفسها مرةً تلو الأخرى.

إن عجز الإنسان عن إعادة ميت، أكبر فجيعة يُفجَعها، وأعظم رزيّةٍ تنزل به، ولربما هي أعظم وقعًا على صدر المرء من عين الموت، وكون الموت من طبيعة الحياة، وحقيقة الوجود، يجعل المرءَ عاجزًا عن تعطيله أو تغييره أو تقليله أو تأخيره أو حتى العبث في قوانينه، فلا يجد له مُسعفًا مُسليًّا لنفسه إلّا أن يُوغر بالحُزن باحثًا عن المفردات التي تعبر عن حاله مُخرجةً أحشاءَه من فرط ما يجد من الحزن، ولم يجد لنفسه مُجيبًا في هذا إلا لسانه وقريحته.

ولعل أجلى ما قيل في عجز الإنسان أمام الموت، قول أبي كبيرٍ الهذليّ:

ولقد حرصت أن أدافع عنهمُ، فإذا المنيةُ أقبلت لا تُدفَعُ

وإذا المنية أنشبت أظفارها، ألفيت كل تميمةٍ لا تنفعُ

فالعينُ بعدهمُ كأنّ حِداقها، سُمِلَت بشوكٍ فهي عورٌ تدمعُ

مطلق حجازي/ فيسبوك
مطلق حجازي
شاب فلسطيني، مواليد طمرة، قضاء عكا، 24 عامًا يدبّ على هذه الأرض، خريج جامعي ومبرمج، يؤمن برسالة الإسلام، يتوق لربيع العرب. يقول: "أكتب نبضات، أدون خطرات، أتلقف من السماء الإشارات".

مدونات أخرى