تراتيل الموت

تراتيل الموت

25 يونيو 2022
+ الخط -

الموت في كل مكانٍ يخيّم، بفناء كل بيت، بحذاء كل باب، بجوار كل راقد، بين يدي الناس إذ يقومون لأشغالهم غافلين.

الموت لا يسأل، يأتي بلا إذن، يتخطّف الناس من أحبابهم، يستلّهم من أقرانهم ثم يقول، لي عودة، ويرجع غامدًا مهنّده إلى خيمته في فناء البيت.

الموت هو الحقيقة التي لا ريب فيها، لا يشك فيها آدميّ ولا تنكرها بهيمة، هو آتٍ آت، فما بالنا ننكره ونستوحش منه ولا ننكر أنفسنا على الجملة؟

إنه لا معنى لوجودنا بغير الموت، لا حياة بلا موت، فإذا انتفى الموت، وأمن الناس على نفوسهم، فلم إذن يتشبّثون بالحياة في سلامتهم فضلًا عن وقت الجزع، وإذن لفنيت الحياة بفناء الموت، فالحياة نقيض الموت، وإذا ذهب الموت صارت الحياة موات.

الموت هو انتزاع النفس من الجسد، وبلا الروح لا حياة، غير أن الروح، هذا الشيء المبهم الذي لا يستطيع البشر له فهمًا، ولا يجدون له تفسيرًا، لا تموت، وقد طربت لقصة حيّ بن يقظان في موت أمه الظبية، وكيف بحث عن الحياة في أحشاء الجسد حتى أتلفه وفاضت الروح إذ أصبح وعاؤها خرابًا، ومن غريب طبيعة الحياة، أن يشهد المرء موت إنسان، أن يشهد سكراته، وهو لا شكّ عنده أن شيئًا ما يحدث، شيءٌ لا يُدرك بالأبصار، ولا يُحسّ بالجوارح، ولا يعيه عقل، ولا يعود منه أحد، فما بالك إذا كان الميت بكامل عقله إلى لحظات، فقد كان هو هو، أما الآن بعد موته فليس شيئًا، ليس موجودًا، لعل هذا الأمر من أسهل الأمور على الإنسان تصديقه، والإقرار به، ولكن لا أتخيل امرأً يعي حقيقة أن يفنى المرء، وهو لا يزال جسدًا، كيف يبرد، كيف يغيب عقله، ويتوقف قلبه، ويفنى.

هذا هو الموت، أو افتراق الروح عن الجسد، وأما نحن معشر أصحاب الأرواح في الأجساد، على أننا في الأصل أرواحًا لا أجساد، لسنا نعرف ما تعنيه الروح، وما يعنيه قول أن الروح شيء، والجسد شيء مغاير، فلسنا نعرف إلا الجسد، فكأننا معشر الأجساد الغافلة، هذه الأجساد التي غدًا وعما قريبٍ ستبرد، وسيذهب بهاء البهيّ، ويروح سناء السّنيّ، ولا يبقى منا إلا شيء لا نفهمه، في عالمٍ لم نره، لمصيرٍ نجهله..

ومن أصدق ما قيل في الموت:

والشرق نحو الغرب أقربُ شقّةً من بُعدِ تلك الخمسة الأشبارِ.

كل شيءٍ حيٍّ في دنيانا هذه أقرب من ميّتٍ بين يديك، وكأن الجسد لا معنى له، ولكننا معشر الأجساد، نبقى نرثيه ونذكر صورته ونخلدها ونستلذ ونتطيّب بالنّظر إليها، لجهلنا بما سواها، غير أنها الآن غريبة، باردة، لا حرارة الروح فيها، ولا نبضة الحب تحييها، كأن جسد الميّت على كرمه، دنيء، ولعل هذا ما ألجأ البشر إلى دفن أحبّائهم، فلولا ذاك، لنتُن الجسد، ولبانت حقيقته، ولكره معشرُ الأجساد معشرَ الأرواح بسبب جسدٍ ليس لهم فيه إلّا ماضيهم، ولما تمنى أحدهم يومًا لقاء أحد.

لولا خيمة الموت، وغيمةٌ تُدِلّ بحمولتها على البشر، تقطر قطراتٍ تلقّف البشر أفرادًا، لكانت الحياة منتهى المنى، ولما تاق مشتاقٌ لمفقود، ولا خاف عاشقٌ على حبيب، وعندما يستكنه المرء هذا المعنى، فإنه يفهم ضحكة فاطمة، رضي الله عنها، عند إخبارها بقريب لحاقها بالرفيق الأعلى، ولا يعجب لبلال إذ يرتجز "غدًا نلقى الأحبة محمدًا وصحبه"، وهذا دون الإيمان بالآخرة غير ممكن، فلولا اليقين بحياة الروح، ولحاقها بالأحبة، لما طاب عيش امرئ بعد حثو التراب على حبيب، فكيف بصحابة النبي صلى الله عليه وسلم، كيف عاشوا بعده يومًا، كيف طعموا بعده طعمًا.. لولا الإيمان، لما خرجت للعالم ثُلة تعلم الحياة معناها، وتطلب الموت حتى كأنه يهرب منها، فينزعون عن الموت وحشته، ويلبسونه ثياب الأعراس، فيصبح الموت خجولًا، ليس ذاك المارد الذي عهدناه، نحن معشر الأجساد.

عندما يسكن الإنسانَ الإيمان، يرى الموت راحة، ووصالُ أحبةٍ طال انتظاره، ولولا الموت، ما كانت الحياة، وقد فاز من علّق أمره بالآخرة، ونقل نفسه من استوحاش الموت والأنس بالدنيا، إلى استوحاش الدنيا والتوق للرفيق الأعلى.

مطلق حجازي/ فيسبوك
مطلق حجازي
شاب فلسطيني، مواليد طمرة، قضاء عكا، 24 عامًا يدبّ على هذه الأرض، خريج جامعي ومبرمج، يؤمن برسالة الإسلام، يتوق لربيع العرب. يقول: "أكتب نبضات، أدون خطرات، أتلقف من السماء الإشارات".