بين يدي اللغة العربية

بين يدي اللغة العربية

20 ديسمبر 2023
+ الخط -

وقفتُ بينَ يديكِ بذلِّةِ عاشق، وهيام معانق، أتملّى نظراً في جمال ألفاظك، وسبْك عباراتك، وجَرْس قوافيك، وعذوبة معانيك، يا أيتها اللغة المقدَّسَة، وللمعالي مكرّسَة، يا كريمة المَحْتِد، ويا ذاتَ فروعٍ لا يبلغ مداها مجتهِد، ولم يحط بها لا (المحيط) ولا (المُنجِد)!

يا أيتها اللغة العظيمة، المقدسة الكريمة، الباذخة لفظاً، والناشطة حفظاً، يا ذات أعلاقٍ مُدَمّسَة، وجذور مؤسسة، صدق من قال:

إنَّ الذي ملأ اللغاتِ محاسناً ... جعل الجمالَ وسرّهُ في الضادِ

وها أنا أرددُ مع محمود درويش:

"هذه لغتي ومُعجزتي.

عصا سِحري.

حدائقُ بابلي ومِسَلَّتي، وهويتي الأولى،

ومعدنيَ الصقيلُ"

العربية، لغة الشِعر منذ كان الشِعر، ولغة النثر كما هو النثر، وهي في الحالين درارٍ تتنظم في عقودٍ من جُمانٍ قد زان وجهاً جميلاً.

وللغة علومٌ وفنون، لعل النحو من أبرز تلك العلوم، وذلك لضبط اللسان عن اللحن في الحديث، فقامت مدارس متنافِسة في تقعيده، فابتدرت ذلك الكوفة، وجارتها البصرة، ولحقتها بغداد، وناظرتها القيروان والأندلس، وجادت مصر في النحو بنصيب، ويكفيها كتاب مغني اللبيب، لابن هشام الأنصاري، ومدّت زَبيدُ اليمن يدها بالدراري، فجادت بكتاب (مُشْكِل النحو) لابن حَيْدَره، فكان في شرح النحو مفخرة.

وقد تناوب على صقل هذه اللغة رجالٌ كرام، إمامهم الخليل بن أحمد، ووصيفه وناقل علمه سيبويه، ويلحقه الأخفش الأوسط، ويتابعه الكسائي مدرّس الخلفاء، وصاحب المعاني الفرّاء، وصاحب المجاز أبو عبيدة، وأدبَ الكاتب ابن قتيبة، والمبرّد في (كامله)، وعبدالحميد في (رسائله)، والجاحظ في (بيانه)، وابن جنّي في (خصائصه)، وكشف عن أسرار البلاغة الجُرجاني، وجَمَع الأغاني الأصفهاني، وصاغ المَقامة الهمذَاني.

وسار على هذا الطريق أدباء عصرنا الحديث، واقتبسوا من أمم الغرب قبساً بطلبٍ حثيث، فجمعوا بين خير القديم والحديث، فكانوا لنا منارا، ولسفننا التائهة في لجج اللغة فنارا، منهم طه حسين في (أيامه)، وأحمد أمين في (إسلامه)، والرافعي إمام البيان، وكاتب رسائل الأحزان، والمنفلوطي في (عَبَراته)، ونجيب محفوظ في (حاراته).

 كتبتُ هذا بمناسبة اليوم العالمي للغة العربية، الذي يوافق الثامن عشر من شهر ديسمبر/ كانون الأول من كل عام..

وأستغرب أنه يوم واحد فقط!

فمنْ قال إن للغة العربية يوماً عالمياً واحداً؟

فأنا أعيش معها طيلة العام أياًما عالمية!

أعيش يوماً عالمياً، وأنا أقرأ الذكر الحكيم وآياته الخالدة، وهي تنساب من علوها السامي كلما رتلت:

{الرَّحْمَنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ خَلَقَ الْإِنْسَانَ عَلَّمَهُ الْبَيَانَ} [الرحمن:1-4]

وأي بيان..

أعيش يوماً عالمياً للغة العربية عندما أقرأ للروائي الكبير نجيب محفوظ إحدى رواياته عن الحارة المصرية.

أما شاعر العرب الأكبر أبو الطيب المتنبي فهو نبي هذه اللغة بدون شريعة ولا ملة جديدة، بل بصياغته الفنية الرفيعة التي ضمنت له الخلود كل هذه العصور.

وكذلك حواريه وأتباعه من بعده؛ وهم جمهرة الشعراء المبدعين الذين ظهروا تتابعاً حتى زمن مولانا البردوني - لسان اليمن الأخير وعينه المبصرة في زمان العميان.

ولا ننسى من سبق المتنبي منذ زمن امرئ القيس بن حجر الكندي - الذي فتق عين الشعر هناك في ضواحي (دَمُّون) الحضرمية اليمنية، وهو يهذي بشعره قائلاً:

تَطاولَ الليلُ علينا دَمُّونْ

إنَّا مَعْشَرٌ يَمانُونْ

وإِنَّنا لأَهْلِنا مُحِبُّونْ

وغيرهم، إلى ما شاء الله.

أعيش وأعيش أياماً عالمية في حمى هذه اللغة المقدسة كما سماها شيخنا أحمد الكبيسي - شفاه الله.

والحديث ذو شجون، بل أغصان ذات عناقيد مدلاة وثمار زكية. 

 

 

***

عبد الحفيظ العمري
عبد الحفيظ العمري
عبد الحفيظ العمري
كاتب ومهندس من اليمن، مهتم بالعلوم ونشر الثقافة العلمية. لديه عدّة كتب منشورة إلكترونيا. الحكمة التي يؤمن بها: "قيمة الانسان هي ما يضيفه للحياة ما بين حياته ومماته" للدكتور مصطفى محمود.
عبد الحفيظ العمري