الوجه الآخر لمدينة الحمامات التونسية

الوجه الآخر لمدينة الحمامات التونسية

27 يوليو 2023
+ الخط -

يبدو أنني، كالكثيرين، لا أرى من الأشياء إلا وجهاً واحداً، المألوف والمتداول في الأذهان، إذ ليس هيِّنا أن تكتشف الوجه الآخر للأشياء: أمكنة وكائنات وأحداث...

وجه قريب منك، أليف كأنك تعرفه منذ زمان بعيد، يقاسمك الهدوء والصمت، والجنوح إلى التأمل. وجه بعينين واسعتين، صقريتن حيث لا حدود للرؤية والرؤيا. عينان تحت حاجب ممتد وكثيف، كغابة تسع الزائرين بلا حدود.

هي مدينة الحمامات التونسية، مدينة النزل والسياح والضجيج (هذا هو وجهها المألوف).

(2)

تكفي جولة صباحية في جهتها الشمالية تحديداً لتكتشف وجهها الآخر. الحركة خفيفة والمدينة قد بدأت تنهض من نومها. الأبيض والأزرق على الحيطان والأبواب والنوافذ. الأخضر على الأسوار وأشجار الطريق، "الأنهج" متوسطة الضيق والتعرّجات فيها غير مزعجة، الأبنية أفقية في الغالب، المنازل على الطراز التقليدي، قباب هنا وهناك. المعتمدية، قصر البلدية، مسجد سيدي يوسف، المقاهي، الترحاب، نظافة المدينة، ترتيبها اللافت، التحايا العفوية المتبادلة مع المارة وأصحاب الدكاكين وأنت تسألهم عن أمكنة وزوايا: الجامع الكبير الذي تمّ بناؤه في القرن الخامس عشر، مسجد سيدي عبد القادر الذي بني سنة 1798 م، كشك الجرائد والمجلات...

أدخل الكشك، فأجد لُعبا ومجلات للأطفال والكتاب الأخير من سلسلة عالم المعرفة (زمن الغضب)، مجلات، جرائد بالإنكليزية والفرنسية (للسياح الأجانب).

 اقتنيت جريدة Le monde، أثارني ملحقها عن العلم والطب. ومن عناوينه المثيرة:

- حدث كأس الروبوتات، وفيه مباريات كرة بين الروبوتات. هكذا... سباق محموم في مجال الذكاء الاصطناعي يلامس كلّ شيء. ما الذي بقي في حياتنا لم تغزه التكنولوجيا؟

- مقال عن البحث العلمي كضحية للحروب، مثال البحث العلمي في روسيا مع الحرب في أوكرانيا. ما الذي سيبقى من بحوث علمية عن السلام؟

عينان تحت حاجب ممتد وكثيف، كغابة تسع الزائرين بلا حدود

- أعمدة حول مواضيع مختلفة: علم النفس، علم الفضاء، الرياضيات، الجينات وغيرها (في عصر التكنولوجيا ما زالت الجرائد الورقية محافظة على جودتها ودسامة محتواها، كجبل لا يأبه للرياح).

عن الأكشاك، كتبت يوما عن كشك قديم وعريق في قلب شارع بورقيبة، عندما تحوّل من مكانه، وانقطعت عنه جرائد ومجلات عريقة كالقدس العربي، والحياة اللندنية، ومجلة الآداب وغيرها...

تَبْدُو الآنَ كَقَبْرٍ جَمَاعِيّ.

طَبْعًا الجُثَثُ التِي تَمْلؤكَ مِنْ إِبْدَاعِنَا نَحْنُ.

...

آهٍ أَيُّهَا الكُشْكُ الذِي كُنَّا نَقِفُ أَمَامَهُ طَوِيلاً فِي الأَمَاسِي

(3)

تمتد الجولة بين "الأنهج" دون أن أتعرّق. حرارة الشمس، الآن، لا شيء، أمام ظلال الأشجار وسحر المكان. هي مشاهد وأفكار لا تنتهي. تتناسل من وحي المكان والتاريخ.

ما الذي دفع الثري الإيطالي جورج سيباستيان لتشييد قصره في هذا المكان في ثلاثينيات القرن العشرين؟ (اليوم هو المركز الثقافي الدولي بالحمامات).

ما الذي جمع هنا الكثير من المبدعين معماريين ورسامين ومسرحيين، ومن جنسيات مختلفة فرنسية وأميركية وإيطالية: جياكوميتي، مان راي، الكاتب أندريه جيد، المعماري لو كوربوزييه، فيسكونتي، جان كوكتو، غي لاروش، ونستون تشرشل الذي أقام بالمدينة لكتابة مذكراته، وغيرهم.

الآن، أفهم جيداً سبب القائمة الطويلة لعشاق المدينة. هذا ليس إلا وجهها الآخر الذي توشك أن تغمره رمال العصر، إنه مصدر الإلهام الذي لا ينتهي، وأسألني: كيف يمكنني، في كلمات قليلة، إعادة تركيب "بازل" المشاهد الكثيفة لهذا الصباح "الحمَّامي" الفريد؟