الوجه الآخر لجزر المالديف... ما لا يعرفه الناس (2)

الوجه الآخر لجزر المالديف... ما لا يعرفه الناس (2)

03 يونيو 2021
+ الخط -

(1)
"عدت يا يوم مولدي"

الأغنية التي غالبا ما كنتُ أفضّلُ سماعها يوم ميلادي. أوّل مرّة سمعتها كانت في "فيلم يوم بلا غد" الذي شاهدته مع جدّتي أيَّام طفولتي ثم شاهدناه سويا أكثر من مرّة بعد ذلك..

وصرتُ كلما سمعتُ الأغنية يومَ مولدي إلا وجدّتي إلى جانبي تقصُّ عليّ القصص ذاته بكل تفاصيله، كما تفعلُ دوما مع كل فيلم أبيض وأسود نشاهده معا. تروي لي أدقّ تفاصيل الفيلم؛ أوّل مرّة شاهَدَتْهُ حينما اصطحبها شقيقها "حمَّة" إلى السّينما بمدينة "سوق أهراس" أيام الاحتلال الفرنسي، وشطرا من حياة بطل وبطلة الفيلم في الواقع. ثمّ تُتْبعُ ذلك بدموع تنهمرُ دون إرادتها، تُبكي من خلالها شقيقها "حمّة" الذي عادة ما يذكّرها بشقيقها الثاني "النّاصر"؛ فتبكيهما معا.

(2)

بين جامع المورابو وجامع العتيق في كنف أمّ وجدّتين 

في مثل هذا اليوم 25 إبريل من عام 1985، فتحت عينيَّ على الدُّنيا بمدينتنا الهادئة (تبسّة) بأقصى الحدود الشرقية للجزائر. أخِذتُ مباشرة من مستشفى عبد العزيز خالدي الكائن بوسط المدينة إلى حي بلاصة الديوانة حيث بيتُ جدة أمّي الكائن في الشارع الرّابط بين المسجد العتيق والكنيسة الكاثوليكية (جامع المورابو). كان ذلك البيتُ أول مكان كُتبَ لي أن أستهل فيه حياتي وأقضي أهم مرحلة من عمري بين أمّ وجدّتين؛ جدّتي وجدّة أمّي.

كان بيتا متواضعا جدا، حميميا ودافئا إلى أبعد حد تتصوره، له غرفتان تطلان على الجامع العتيق حيث كانت جدّة أمّي تعلّمُ صغار الحيّ القرآن وترشدُ النّسوة وتشرحُ لهن تعاليم الإسلام. بوصولك إلى مدخل البيت تلمح بابا خشبيا أخضر اللون بدفّتين طويلتين، يتوسطه مقبض رخامي أبيض- لا يزال موجودا لحد اليوم- يدخلك مباشرة إلى طابق أرضي كنا نسميه "الحوش" في البيوت العتيقة. إذا دقّقتَ النّظر أكثر في الطابق السفلي يبدو لك غرفة مهجورة أو مخزنا مظلما كنا نسميه بالفرنسية (La cave)، به دورة مياه جهة اليسار -لا أتذكرُ أننا استعملناها يوما- ويملأه ركام كثير و خردوات غير صالحة للاستعمال لم أعرف يوما مصدرها! ثمّ تعاود طريقك خطوتين إلى المدخل لتجد على يمينك وأنت متجه إلى الباب الذي دخلت منه؛ سلما طويلا بشكل نصف دائري يقودك إلى الطابق العلوي الذي يضمُّ سطحا، يتفرع عن رواق طويل وثلاث غرف؛ غرفة تطل على السلم جهة الشمال لم تعد تصلحُ للسّكن في السنوات الأخيرة (نهاية الثمانينيات وبداية التسعينيات) وغرفة على يمين السّلم كانت غرفتنا الرئيسة، بها بوّابتان على شكل نافذتين كبيرتين موصولتين بشرفتين تطلان على الجامع العتيق. داخل هذه الغرفة، الغرفة التي بدأت منها أهم مرحلة من طفولتي وحياتي. لا أذكرُ الآن شيئا من تفاصيل تلك الغرفة سوى خزانة جدّة أمي الخشبية بيضاء اللون إلى جانبها صندوقها الخشبي بُنّيّ اللون؛ الذي كانت تحتفظ فيه بكتبها القديمة صفراء اللون التي ورثتها عن والدها وبعض ما خطتها بيدها  بالحبر التقليدي (الصّمق والزعفران).

ما كان يميّزُ تلك الغرفة هو بصمة خمس أصابع سوداء اللون، طبعتها جدّتي بالقطران يوم ولدتُ لحمايتي من العين والحسد -كما كان الاعتقاد السّائد لدى الجدّات في ذلك الوقت-، علمتُ تفاصيلها بعدما كبرتُ وسألتُ أمّي. لنا أن نتخيّل إحساس الفرحة والخوف على أوّل مولود يملأ البيت ويصير محل اهتمام وعناية فائقة لدى الجميع، كيف سيعيش طفولته!
من هنا بدأت حياتي في كنف أمّ وجدّتين.

الصورة
والدة محمد فاروق طوالبية

يُتبع..