العصر الأميركي في السودان

العصر الأميركي في السودان

22 ديسمبر 2020
+ الخط -

(1)

يُحكَم السودان بموجب شراكة سياسية بين قوى الحرية والتغيير، التحالف السياسي الذي قاد الثورة الشعبية التي أسقطت نظام عمر البشير في إبريل/ نيسان 2019، والمجلس العسكري الذي كان قد تولى مقاليد الحكم منفردًا لفترةٍ قصيرة عقب سقوط البشير وحتى قيام الشراكة بين الطرفين في سبتمبر/ أيلول 2019، تاريخ تشكيل الحكومة الانتقالية المدنية برئاسة الدكتور عبد الله حمدوك.    

تضبُط هذه الشراكة وثيقةٌ دستورية مَنحت الحكومة المدنية صلاحياتٍ واسعة في مقابلِ صلاحياتٍ تشريفية للشُركاء العسكريين. مع ذلك، كان العنوان الأبرز للفترة المنصرمة من عمر هذه التجربة هو هيمنة الشريك العسكري على المشهد، فقد أبقى الملف الأمني في يده، وتولى إدارة التفاوض مع حركات الكفاح المسلح في أطراف البلاد، واحتفظ بأنشطته الاقتصادية المستقلة، بل وتولى أحد العسكريين رئاسة لجنة الطوارئ الاقتصادية، ثم تدخل أيضًا في السياسة الخارجية مُدشنًا العلاقات السودانية الإسرائيلية. جرى ذلك كله في ظل صمتٍ تام، يرقى إلى درجة الرضا، من قِبل رئيس الحكومة المدنية.

 

(2)

كل ما سَبَق تغير تمامًا خلال الأسابيع القليلة الماضية. ما حدث أخيرًا يكاد يكون أول انقلاب مدني في السودان. بعض ما جرى:

* استدعت اللجنة الوطنية للتحقيق في مجزرة اعتصام القيادة العامة في 15 نوفمبر/ تشرين الثاني 2020 أعضاء المجلس العسكري للتحقيق. لا بد من التذكير بأن المجزرة جرت في 3 يونيو/ حزيران 2019، وأن لجنة التحقيق شُكلت في أكتوبر/ تشرين الأول 2019. مع ذلك لم يعنّ لها استدعاء العسكريين إلا الآن، وهم من كانوا يحكمون البلاد حينها وقد جرت المَقْتَلة تحت سمعهم وبصرهم.

* رفض رئيس الحكومة الانتقالية، مطلع ديسمبر/ كانون الأول الجاري، صلاحيات جسم دستوري جديد، سُمي مجلس الشركاء، بدعوى تغوله على صلاحياته. الرجل ذاته كان قد قَبِل ترؤس عسكري له في لجنة الطوارئ الاقتصادية، وتعايش مع استباحة العسكريين لصلاحياته الدستورية في تعيين محافظ بنك السودان ومديري المخابرات العامة والشرطة، وما لا يحصى من تغول عسكري في غير ذلك من القضايا.

*  عقب إزالة اسم السودان من القائمة الأميركية للدول راعية الإرهاب في 14 ديسمبر 2020، أصدر رئيس الوزراء سلسلة من التصريحات النارية، مهددًا بفض الشراكة مع العسكريين تارة، وقائلاً إن أيلولة المؤسسات التجارية العسكرية لحظيرة وزارة المالية أمر لا تفاوض حوله تارةً أخرى. تلك المؤسسات التي كانت حكومته قد قبلت منها (تبرعا) بملياري دولار لصالح موازنة 2020.

 

(3)

لا بد من التساؤل حول الذي أشعل الحرارة في قلب رئيس الوزراء بغتة. المتغيرات الداخلية لا تفسر الانتفاضة الحمدوكية في وجه الشريك العسكري، فتلك المتغيرات ليست في صالحه أصلًا، فقد انحط الاقتصاد في عهده انحطاطًا غير مسبوق في تاريخ البلاد، وتآكلت شعبيته، كما تفسخت قوى الحرية والتغيير التي دفعت به إلى السلطة.

 

تجدُ الهَبّة الحمدوكية تفسيرها في متغيرٍ خارجيٍ حاسم، بل إنها بدأت بمجرد حصول ذلك المتغير وهو فوز الرئيس الأميركي المنتخب جو بايدن. هذا الأخير سيكون أقل قربًا من دونالد ترامب لدولة الإمارات العربية، الحليف الإقليمي الأبرز لعسكريي السودان، وقد يكون أكثر تشددًا في وجه انقلاب عسكري يزينه هذا الحليف الإقليمي، وأكثر وفاء للمدرسة التقليدية للسياسة الخارجية الأميركية القائمة على (نشر الديمقراطية)، أو هكذا تزعم. رئيسُ الوزراء ورهطٌ ممن حوله أبناءٌ بررة لهذه المدرسة الأميركية. انتخاب بايدن في هذا السياق، يُربك مكون الحكم العسكري في السودان، وأطماعه الانقلابية البائنة.

(4)

على الصعيد ذاته، أتوقف عند قانون الدفاع الوطني الأميركي لعام 2021 الذي وافق عليه الكونغرس بغرفتيه أخيرًا في انتظار توقيع الرئيس عليه ليصبح قانونًا ساريًا. حوى ذلك القانون ملحقًا تقدم به العضو الديمقراطي في مجلس النواب، إيلتون إيغل، عنوانه قانون التحول الديمقراطي، المحاسبة والشفافية المالية في السودان لعام 2020. هذا القانون يفسر الكثير، إذ تتطابق بعض تصريحات رئيس الحكومة الأخيرة مع نص ذلك القانون حرفًا بحرف.

أبرز ما يميز القانون الأميركي حول السودان شموله، فهو بمثابة برنامج لحكم البلاد ورسم مستقبلها، مخاطبًا قضايا تضم الانتخابات، تقوية المجتمع المدني، وضع المرأة، الحريات الدينية، والإصلاحات الاقتصادية الواجب على السودان اتباعها.

أفرد القانون مساحة واسعة للتعامل مع الأجهزة الأمنية السودانية، وهو ما يحمل على الاعتقاد بأن إعادة صياغة تلك الأجهزة هدفه المباشر الرئيسي. يُعّرِف القانون في الفقرة 1262-4 الأجهزة الأمنية السودانية بأنها: الجيش، الدعم السريع، الدفاع الشعبي، الشرطة، المخابرات العامة، وأي قوات أو مليشيات أخرى (انظر شمول اللغة، يغطي القانون نظريًا حتى الكشافة والمطافئ!).

 يتلخص ما يريده القانون من الأجهزة الأمنية المذكورة في ثلاث مسائل رئيسية، أولاها خضوع هذه الأجهزة للسلطة المدنية وكشفها عن كافة أنشطتها لها ، ثانيتها تسليم الأجهزةِ الأمنية السلطةَ المدنية كافة ممتلكاتها ومواردها والامتناع عن القيام بأي أنشطة تجارية. آخر مطلوبات القانون هي تقديم هذه الأجهزة منسوبيها للمحاسبة على جرائم الحرب أو التطهير العرقي المرتكبة منذ 30 يونيو 1989 حتى يومنا هذا بما فيها مجزرة القيادة العامة. هذه المحاكمات يجب أن تتم على يد مدنيين داخل أو خارج السودان وفي موضع آخر من القانون على يد آلية مناسبة للمحاكمة داخل أو خارج السودان.

 

(5)

لن ينجح التحول الديمقراطي بدون مجابهة الأطماع الانقلابية لشريك الحكم العسكري وبدون إصلاحٍ جذري للأجهزة الأمنية. إصلاحٌ يرى هذه الأجهزة كما هي، مؤسساتٍ قومية يجب رفع بنائها طلبًا للاستقرار، وتعايشًا مع الديمقراطية، لا خصمًا يُؤخذ بجريرة قيادته. إصلاح يضع مصلحة البلاد العليا نُصب عينيه، إصلاحٌ لا بد أن تستجيب القوات المسلحة له تفاديًا للعواقب المُهلكة.

المحذور أن يتم هذا الإصلاح، كما يبد والآن، وفق الإرادة الأميركية وخريطة الطريق الأميركية، فمن السذاجة الاعتقاد أن تلك الإرادة تضع مصلحة بلادنا على رأس اعتباراتها، أو أنها صافية النية، فقد يكون تقسيم البلاد أو نسف استقرارها الهش أحد خواتيم الاستسلام لتلك الإرادة، كما حصل في دول عدة تدخلت فيها الولايات المتحدة، كلبنان، والعراق، وليبيا.

ومما تقشعر له الأبدان الشروع في ما يسمى إصلاحًا في غياب مشروع وطني، أو استراتيجية سودانية للأمن القومي، فمن قال إن محاسبة العسكريين على جرائمهم خارج السودان، كما يقول الأميركي، من مصلحة البلاد، ومن يزعم أن كشف كافة الأنشطة العسكرية في ظل اهتراء مؤسساتنا الوطنية وانكشافها يصون تلك المصلحة.

يقول المتحمسون للوصاية الأميركية إن تلك الأخيرة تلتقي مع مصلحة المشروع الديمقراطي في السودان، وما المطلوب إلا استثمار هذا الالتقاء المؤقت لصالح البلاد. في ذاكرتنا القريبة، استخدام الزعم ذاته لتبرير الشراكة المدنية-العسكرية التي انتهى بها الحال في الإبط العسكري. يدرك كل ذي عقل أن الشراكة المزعومة مع الأميركيين ستلقى المصير ذاته: تبعية كاملة لن تكون أقل إزكاما للأنوف.