الدراما من وراء أسوار المجمع السكني

الدراما من وراء أسوار المجمع السكني

13 مايو 2023
+ الخط -

فرضت الدراما العربية نفسها طبقاً رئيسياً على السفرة الرمضانية، والقلّة القليلة من هذه الأعمال استطاعت جذب اهتمام المشاهدين، وفرضت بعض الأعمال الرمضانية سيطرتها على الشاشة الصغيرة، وحصدت الكم الأكبر من المشاهدات.

 وكالعادة، يتداول رواد السوشيال ميديا أبرز أحداثها، بأدقّ تفاصيلها وأخبار أبطالها، وحتى العبارات التي ينطقون بها تصبح "ترند" و"لازمة" يكرّرها الكثير من الناس، وهذا يعني أنّ هذه المسلسلات تضع بصمتها، وبشكل واضح على أفكار المتفرجين وسلوكياتهم ومبادئهم ومفاهيمهم، من كبار وصغار ومراهقين وأطفال، مما يعني أنّ الدراما تشارك، وبشكل كبير، في بناء شخصية أبنائنا، لذلك من المهم تسليط الضوء على محتوى هذه الأعمال والتدقيق في تفاصيلها.

ثمّة، كتّاب ومخرجون وممثلون يعيشون خلف أسوار المجمع السكني، حيث الماء والخضار والوجه الحسن، عالم راق وغارق في الرفاهية. ومن أمام حديقة الفيلا المطلّة على بركة السباحة، يبدأ الكاتب بحياكة خيوط درامية لأولئك الذين يعيشون خلف تلك الأسوار، ثمّ يستعين بمخرج يعيش بالمجمع نفسه ويتخيلون معاً، حياة الناس في أحياء يسمعون عنها وعن سكانها، دون أن تطأ أقدامهم أرضها. هم يجهلون تماماً كيف يعيشون، وما المشاكل التي يعانون منها، هم الذين لا يعرفون وجه الفقر، ولم يجرّبوا يوماً وجعه، لم "تقرقع" بطونهم من الجوع، ولا تعنيهم أزمة السير، ولا أزمة الوقود، ولا يعبؤون بغلاء الأسعار، هم يملكون مجتمعهم البعيد الهادئ، ولهم  أماكن خاصة لا يُسمح لمن خلف هذه الأسوار بالاقتراب منها... عالم لا يمت بصلة لمن يعيشون في المناطق الشعبية، حيث البيوت المتلاصقة، والنوافذ المفتوحة على بيت الجيران، والأحياء الضيّقة المعتمة، وأصوات أولاد الشوارع يلعبون الكرة في الحارات...

باختصار، من يكتب قصصهم هو شخص بعيد عن عالمهم، لم يكن في يوم من الأيام جاراً لهم أو صديقاً لأحد أولادهم، لم يجلس في مقاهيهم، ولم يشرب "كوبة" الشاي من يد "أوسطا" القهوة، لم يقعد على كرسيها الخشبي القديم وينفث دخان سيجارته...

ضحايا الأعمال الدرامية هم حطب ووقود نجاحها، هم من يحملون وزر شهرتها واستمراريتها، هم من يُغرقون صنّاعها بالأموال دون أن يتنبّهوا لخطورة الرسائل الكامنة في تفاصيلها 

كيف يستطيع هؤلاء كتابة وإخراج قصص لحياة "بشر" لا يعرفونهم! للأسف، هذا ما يحدث على أرض الواقع، وخاصة في الدراما المصرية، حيث تابعنا العديد من هذه الأعمال، وآخرها "جعفر العمدة"، حيث يعيش بطل المسلسل في حي شعبي "بالسيدة زينب"، وهو رجل أعمال ناجح، ولكنه بلطجي أيضاً، يأخذ حقه بنفسه، وطبعاً تحت سلطته مجموعة من "الزعران"، يستعين بهم في المعارك الكبرى. أما المعارك الصغيرة في الحارة، ومع عائلة فتوح خاصة، فهو كفيل بها، يضرب أبناء العائلة المعادية، يسحلهم بالشارع، ينهال عليهم ضرباً ثم يجلس على الكرسي "بنصّ الحارة"، ويدخن الأركيلة دون اعتراض أو تدخل من أحد. والمشهد الآخر، وهو الأشدّ غرابة، حين يذهب "جعفر" إلى شركة في منطقة تجارية، ويصطحب معه شاحنات محمّلة بالبلطجية لاستعادة حقه من صاحب شركة الأمن، الذي رفض تسديد الديون المتراكمة عليه. والسؤال المطروح، وبإلحاح: أين الشرطة؟ ما دورها في هذه الأحداث؟ لماذا لا تتدخل في مشاكل الحارة؟ لماذا لا يستدعي صاحب شركة الأمن أو أحد موظفيه الشرطة؟ هل سكّان هذه المناطق الشعبية فوق القانون؟

 وفي مشهد درامي آخر يحمل الكثير من السلوكيات السلبية، ثمّة امرأة تخلع زوجها، ابن عمتها، دون أن يعلم، لا بل، وتصل إلى قمّة التطرف عندما قامت بخلع زوجها دون أن يعرف، وتزوّجت من ابن حارته وعدو عائلته أمامه في عرس مفاجئ وعلني، ودون أدنى احترام للعلاقات المتشابكة لسكان هذه المناطق، حيث الجار يعتبر صاحب مكانة "وسابع جار صاحب الدار"! إنها صورة قاتمة غارقة بالسوداوية، والسؤال: هل هذه هي الصورة الحقيقية لفئة تعتبر المكوّن الرئيسي والأكبر للمجتمع المصري؟ أم هي صورة التُقطت من بعيد دون التمعّن بتفاصيلها؟ وهذه النوعية من المسلسلات، من يساهم بترويجها ودعمها؟ من يساعدها على تحقيق أعلى نسب مشاهدة؟ من يصنع لها الأمجاد ويصفّق لصنّاعها؟ هل هم أولئك القانطون، خلف أسوار المجمع السكني الراقي؟

 أكيد لا، فهم طبقة لا تعنيهم الدراما العربية، لا يشاهدونها، بل إنّ بعضهم لا يتحدث اللغة العربية. إذاً، ضحايا هذه الأعمال، هم حطب ووقود شهرة ونجاح هذه الأعمال، هم من يحملون وزر شهرتها واستمراريتها، هم من يُغرقون صنّاعها بالأموال دون أن يتنبّهوا لخطورة الرسائل الكامنة في تفاصيلها على أفكار وسلوكيات أبنائهم، وعلى مستقبلهم بشكل عام. ولأنهم الأغلبية، وهم القوة الأكبر في المجتمع، يجب عليهم التوقّف عن المساهمة في إنجاح هذه النوعية من الدراما السامة.

أما عن الدراما السورية، فينطبق عليها القول: "أسمع كلامك أصدقك، أشوف أمورك أستعجب". فمسلسل "الزند" للنجم السوري، تيم حسن، والمخرج سامر البرقاوي، عمل أقل ما يُقال عنه إنه مدهش، مسلسل بغاية الإتقان والروعة، نحن أمام عمل درامي لم نشاهد ما يشبهه منذ سنوات طويلة، أداء متكامل ومتميّز من قبل كلّ الممثلين، ويعتبر من أفضل الأعمال العربية في هذا الموسم الرمضاني لامتلاكه مقوّمات عالية الجودة من ناحية الإخراج والتصوير، والأغاني التراثية المستخدمة. لكن مع ذلك، يبدو أنّ صنّاع العمل لم يقتنعوا بقدرة هذا العمل على النجاح، فلجأوا إلى  الطريقة الأسهل، وهي  إثارة الجدل، وقد فعلها بطل المسلسل عندما استخدم ألفاظاً بذيئة تمسّ كرامة المرأة، ألفاظ صادمة خارجة عن المألوف، والمشكلة أنها "مسبّات" مبتكرة، وإن كان لها وجود، فهي غير متداولة بين الناس، والمرأة بشكل عام، "والأم" بشكل خاص، ضحية هذا الاستخدام دون أدنى احترام لقدسية الأم ومكانتها العالية في كلّ المجتمعات العربية، وكأنّ المرأة عبء وعار على الرجال، وتعتبر إهانة كبيرة أن يُشتم الرجل بأمه أو بأخته، وترسيخاً لفكرة أنّ البنات "هم للممات". وفي مشهد أقوى وأشدّ تأثيراً، كان عاصي ورجاله يحتفلون بانتصارهم على الباشا الذي امتعض وقرّر أن يفسد فرحتهم، فقام بكشف علاقته الحميمة مع أخت صالح، كاشفاً عن علامة فارقة في جسدها، فغضب صالح وجنّ جنونه وهدّد أخته بقتلها، حال لم يقم زوجها بتلك المهمة!

الرسائل التي أراد صنّاع بعض الأعمال الدرامية إيصالها للمشاهد العربي، تكمن في أنّ المرأة التي تعيش معك تحت سقف واحد، هي قنبلة موقوتة قد تنفجر في وجهك وتهدم حياتك! وهي رسائل سامة بامتياز

وفي مسلسل "العربجي"، كان شرف المرأة المحور الرئيسي للقصة، حيث تقول الحكاية إنّ عبدو رجل قوي، لا يهاب أحداً، ولا يخضع لسلطة أحد، متمرّد على زعيم الحارة. وانتقاماً منه، يقرّر الزعيم أن يهينه، فقام بتدبير  مكيدة تمسّ شرف ابنته، وهذا ما كان، فانكسرت "شوكته وضاعت هيبته"، حتى وصل الأمر به إلى أن يقبّل حذاء الزعيم لكي يستر عليه وعليها. إذن، استطاع الزعيم إذلال عبدو وانحنت هامته، عبدو (القبضاي) طأطأ رأسه، عبدو القوى الذي لا يُقهر قهرته ابنته!

وبعد أن تموت ابنته حرقاً، ويتأكد أنّ ما قيل عنها عار عن الصحة، يلوم جميع المشاركين بالمكيدة ولا يلوم نفسه الأمارة بسوء الظن، يشعر بالظلم، ولا يشعر بأنه ظالم. بكى بكاء الضحية، ولم يبك بكاء النادم، شعر أنّ الجميع متهم بقتل ابنته، ولم يشعر بأنه هو المتهم الأول، لذا قرّر قتل خصمه الأضعف، زوج ابنته المغدورة بطريقة مقزّزة، لا تليق بمخرج العمل المبدع دائماً (سيف السبيعي)، ولا بالممثل الراقي محمد قنوع. 

إنّ الرسائل التي أراد صنّاع هذه الأعمال إيصالها للمشاهد العربي، تكمن في أنّ المرأة التي تعيش معك تحت سقف واحد، هي قنبلة موقوتة قد تنفجر في وجهك وتهدم حياتك، وأنّ شرفك وكرامتك وهيبتك مربوطة مع طرف ثوبها وخصلات شعرها، وجود الأنثى في بيتك يشكل تهديداً على "رجولتك"، مع كلّ خطوة تخطوها، ومع كلّ كلمة تنطق بها، لأنها في حال أقدمت على ارتكاب أيّ خطأ، وإن كان غير مقصود، فقد تكسر ظهرك، و"تدسّ رأسك بالتراب"، ولأنها، وبغفلة من زمانك، قد تجعلك قاتلاً! ومن أجل، كلّ ذلك يجب على كلّ الرجال أخذ الحيطة والحذر منها، عليهم أن يتتبعوا خطواتها، أن يراقبوا تحرّكاتها، أن يتجسّسوا على مكالماتها، وأن لا تغفل عيونهم عنها، إنها مسؤولية كبيرة وقيد ثقيل، عليهم أن يتحمّلوا وجعه طوال حياتهم...

هذه هي الأفكار السامة التي يريدون زراعتها في عقول المشاهدين، والغريب أنها أفكار تتعارض مع أسلوب حياتهم، ومع آرائهم في السوشيال ميديا، والحياة العامة، فهم المدافعون باستمرار عن حرية المرأة، وعن حقوقها، ويدعمون الحريات الشخصية للأفراد كافة، بلا حدود، ولو كانت منافية للدين والعادات والتقاليد، لذلك أقول لهم: "أسمع كلامك أصدقك، وأشوف أعمالك أستعجب".