أيأكلُ الاغترابَ الإبداعُ؟

أيأكلُ الاغترابَ الإبداعُ؟

16 اغسطس 2023
+ الخط -

يمكن للإنسان المثقف، والشاعر تحديدًا، مواجهة الاغتراب بكافة أشكاله من خلال التعبير عنه بقصائد تملأ المكان، بحيث تخفّف عنه حدّة الشعور بالنّفي والضّياع، وتُضيف له شعورًا بالالتصاق بنفسه والانتماء إليها، وسط دوامة السياسة والعشائر والتقاليد والقيم...

ونجد في عالمنا المعاصر أنّ الشاعر الفلسطيني، محمود درويش، هو أكثر الشعراء تعبيرًا عن ماهيّة الاغتراب، وأقلّهم انتماءً للأشياء في الفترة الأخيرة من حياته؛ فكتب الكثير وواجه في الكتابة عمق الاغتراب النفسي والسياسي والاجتماعي والعاطفي. حيث يقول معبّرًا عن ماهيّة الاغتراب وقسوته:

"أنا من هناك

أنا من هنا

ولستُ هناكَ

ولستُ هنا".

ويقول أيضا:

"منفىً هو العالمُ الخارجيّ

 ومنفىً هو العالم الباطنيّ

فمن أنتَ بينهما!".

وفي هذا تعبيرٌ صارخٌ عن الاقتلاع الروحي والاجتثاث النفسي عن المكان والأنظمة والأعراف، بحيث أصبح هذا الاقتلاع يؤثّر بطريقةٍ أو بأخرى على "العالم الباطني" أي النفس والانتماء إليها، ولكنه في المقابل أخرج أجمل ما في درويش من نصوص، فهل هذا يُغتفرُ بذاك؟

ويقول أيضًا في مطلع قصيدة "لاعب النرد":

"من أنا لأقولَ لكم ما أقولُ لكم!

وأنا لم أكن حجرًا صقلته المياهُ فأصبح وجهًا

ولا قصبًا ثقبته الرّياحُ فأصبح نايًا

أنا لاعب النرد، أربحُ حينًا وأخسرُ حينًا

أنا مثلكم، أو أقلُّ قليلًا".

يحاول درويش الخروج عن المفاهيم من خلال الاغتراب؛ فمن الدارج أن من يقول للناس كلامًا مرتّبًا يكون شيئًا رفيعًا في قانون السياسة أو في الدين أو في العشائر، بينما يعتقد الشاعر أنه ليس شيئًا من هذا كلّه، فيقول: "من أنا لأقول لكم ما أقول لكم"، وبهذا قد فرض مفهومًا، وقوَّم شائعًا، وبسط بساطًا يحول بين ما يجب أن يكون في المفاهيم والمعتقدات التي يعتقدها الناس وبين ما هو كائن. وهذه محاولة لإظهار ما يعتقده الشاعر، كأن يكون إنسانًا عاديًا يلقي كلامه غير العادي على الناس، فليس بالضرورة أن يكون ذا منصبٍ رفيع حتى يحكي ما لجّ فيه من كلامٍ غير عادي.

الضجيج المجتمعي والسياسي والعقائدي لا يكترث لصوت الشاعر أو لما يعزفه الناي

إنّ الشعور بالاغتراب ليس وليد اللحظة، بل ولد مع الإنسان منذ الأزل، فهو طبيعة مجبولة بالإنسان لا يمكن تخليصه منها، لذا نجد قديمًا، أحمد أبو الطيب المتنبي، يقول:

هكذا كنتُ في أهلي وفي وطني

إن النفيسَ غريبٌ حيثما كانا

ويقول أيضا:

أنا تربُ النّدى وربُّ القوافي

وسمامُ العدى وغيظُ الحسودِ

أنا في أمةٍ تداركها اللهُ 

غريبٌ كصالحٍ في ثمودِ

نجد أنّ المتنبي هنا، تَكبُر فيه الأنا عند تعبيره عن اغترابه، بحيث يعلّي من شأنه قدر المستطاع، وهذا يؤكد على أن الاغتراب ليس بالضرورة شيئًا ناقصًا، إنما قد يكون التصاقًا روحيًا بالذات إلى حدّ إعلاء الأنا عند المغترب، وتقديس انتماءاته الشخصية.

يمكن أن يكون الاغتراب صمتًا لئيمًا، يمزّقُ أحشاء المغترب؛ نظرًا لشعوره بعدم الإنصاف والإبعاد والنفي، ولشعوره أيضًا بعبثيّة التغيير واستحالته

إنّ الإنسان المثقف والمغترب عن محيطه الاجتماعي والسياسي، قد ينقطع عن ذاته ومعتقداته الشخصية؛ نتيجةً لرفضه بالدرجة الأولى لما يُحيط به من ثقافة ومعتقدات، فيشكك بنفسه ومعتقداته؛ لأنه يعتقد أنها لن تجدي نفعًا أمام هذا الكم الهائل من الرفض أمامه، بالتالي لن يؤثر رأيه في آراء الغير، فيلجأ، بطبيعة الحال، إلى الصمت؛ فالضجيج المجتمعي والسياسي والعقائدي لا يكترث لصوت الشاعر أو لما يعزفه الناي. وقد يحدث العكس تمامًا؛ التصاقًا بالذات، وتقويمًا للمعتقد الفردي، وفرضه على الآخرين بالإبداع الفني.

في النهاية، إنّ ظاهرة الاغتراب هي حالة روحية وذهنية معًا، يشعر بها المثقف والواعي؛ لمعرفته بماهيّة المعتقدات والأعراف السائدة في مجتمعه، فهو الذي يرى بأنها تخالف معتقداته الشخصية ومنظوره المتفرّد للأشياء والحياة، فإما أن يتزعزع معتقده الشخصي وينصهر في معتقدات الناس ويصبح تابعًا لهم، وإما أن يحافظ على معتقده الشخصي ويقوّمه تقويمًا جادًا، ليواجه فيه الاعتبارات الاجتماعية والسياسية والمكانية كافّة، بإبداعه في أحد الفنون الحياتية، كالكتابة.

الاغتراب في بعض الأحيان قد يكون لقمةً سائغة في فم الإبداع، وسببًا رائعًا لتعزيز الانتماءات الفردية. فهو يُخرج المغترِب عن المألوف في شعره أو نايه أو لوحته، ويرفع مما يعتقده في وجه المعتقدات البالية التي يعتقدها أغلب الناس. ويمكن أيضًا أن يكون الاغتراب صمتًا لئيمًا، يمزّقُ أحشاء المغترب؛ نظرًا لشعوره بعدم الإنصاف والإبعاد والنفي، ولشعوره أيضًا بعبثيّة التغيير واستحالته.

الريماوي
محمد الريماوي
كاتب ومدوّن. خريج جامعة بير زيت. له اهتمامات في اللغة العربية والكتابة الإبداعية والشعر وكتابة الأبحاث والمقالات، ويقدّم محتوى مرئيًا ومسموعًا على منصات التواصل الاجتماعي.