أوراق من الماضي

أوراق من الماضي

29 اغسطس 2021
+ الخط -

عندما يوغل بنا العمر، وتترك السنوات ببصماتها تجاعيد في ملامحنا، ونستدير بما يتبقّى في الذاكرة إلى الوراء، نشهد أوراق الخريف، وقد كانت خضراء يوماً ما، ويبست اليوم بفضل ريح الزمن على طول الطريق. كل ورقة منها كانت لحظة خضراء، كانت نبض شباب وحيوية.

لكننا - ربما - لم نتنبّه إلى ذلك جيداً. وعادة نكتشف الحقيقة في سنوات الكهولة! ها أنذا أتجاوز الخمسين ونيّفاً، لكن ورقة خضراء تظل عالقة بالذاكرة. ورقة من عمر الشباب، حين كنت في سنّ الزواج والعواطف المتأججة. الآن يلوح لي وجهها من وراء السنين، أحببتها حبّاً لا أستطيع الآن أن أصفه.. كانت أحد معارفي، أحببتها في صمت، حب جارف لا بعده ولا قبله، ولم أكن وقتذاك قد تهيأت مادياً لكي أتقدم للزواج منها، وأصبح لي ـ وقتذاك أيضاً ـ هدف جميل في الحياة، خاصة بعد أن اتضحت لي مشاعرها نحوي بنفس القدر، وبنفس الطاقة التي تنبض بداخلي.

نعم، لقد اتفقنا سرّاً على الزواج، ويبقى أن أستعد، وأكمل معها مشوار الطريق الطويل الذي رسمته في دخيلة نفسي. سنوات وهي ترفض كل من يتقدم إليها طالباً يدها، وفي النهاية كنت قد وصلت إلى الإمكانات التي تجعلني قادراً على أن أطلب يدها، وكم كانت فرحتها وسعادتها كبيرة حين تم ذلك، ولا بد أنني كنت سعيداً أنا الآخر بهذه الخطوط الحاسمة في حياتنا معاً.

وبينما - في إحدى أمسيات الآمال الكبيرة - كنت أجلس إلى أوراقي أرصد فيها تفاصيل البيت الذي أحلم به. البيت الذي أردته بخيالي أن يكون عشّاً بسيطاً وجميلاً لزوجين متحابين.

أثارني أن يحدث هذا دون أن تحسم موقفها مني أو أن توضّحه. وبدلاً من أن أنقذ مشروع الزيارة معتذراً قرّرت أن تكون هذه الزيارة لحسم موقفي منها، والانفصال عنها كلية

في تلك الأمسية البعيدة جاءني من يَشي بمن عَرفت. قال لي إنها متعلّقة بابن خالتها، وإن ابن خالتها أصبح يزور الآن بيتهم كل ليلة، بل هو يسهر في بيتهم إلى وقت متأخر من الليل!

إنّني أعرف ابن خالتها هذا. أعرف أنّه شاب يكبرني سناً، وهو مرتاح مادياً، وهو تاجر كبير ويملك الإمكانات الضخمة التي تجعله أقدر مني على الفوز بها شئت أم أبيت، إلا أنه لم يكن وسيماً بالشكل التي ترغب به، وهي على عكس ذلك تماماً، وأعرف أنّه كان قد تقدم لخطبتها مراراً ضمن من تقدموا لها.. لكنها كانت ترفضه بشدّة ضمن من رفضتهم، وكانت تتحاشى التحدث معه وتبتعد عن أي طريق يؤدي إلى أن يلتقيا به.

كانت تبتعد عنه كثيراً، ورغم إلحاحه وتعنته تحاول "التملّص "منه، وتتحاشى أي حديث يحاول أن يعرضه عليها للنقاش فيه تلافياً للاحتكاك به، على الرغم من إسهاماته ومساعدته المادية التي يحاول أن يعرضها بصورة دائمة لأهلها بسبب الفقر والحاجة التي كانوا يعانون منها!

ومع ذلك امتدت الوشاية بظلال من الشك إلى صدري! هل تكون قد رجعت عن موقفها؟ هل تكون الأسرة - في ظل تقاليد ذلك الزمان - قد آثرت أن تزوجها من ابن خالتها فأقنعتها بذلك، وهو القادر مادياً على تأمين ما يرغبون في ظل توافرها؟

وراحت الظنون تنبت في صدري وتزدحم، لكنني أبداً ما فقدت الأمل. أصبحت أُكثر من زياراتي لبيت أهلها، وأتردد بصورة مستمرة، ولكن - للأسف الشديد - كان ابن خالتها يزور البيت بنفس المعدل، وأكثر. لم ألحظ شيئاً يشي بما أكده الوشاة لي. ولكن، كيف كان لي أن أعلل زياراته اليومية لبيت خالته مهما كان حجم هذه القرابة؟!

وانقطعت عن الزيارة أسبوعاً.. يعلم الله كيف استطعت أن أتحمّله. ومن عجب أن أحداً من أهلها لم يستفسر عن ذلك. ولم يكن في وسعها - هكذا كانت التقاليد - أن تسأل عني. فلما قرّرت في اليوم الثامن أن أزورها معتذراً من الأيام السابقة فوجئت بمن يأتي إليّ ويخبرني بأن الأمور بين من عرفت وأحببتها يوماً وبين ابن خالتها تسير في نتائج إيجابية. أقنعني بأن زواجهما واقع لا محالة!

وأثارني أن يحدث هذا دون أن تحسم موقفها مني أو أن توضّحه. وبدلاً من أن أنقذ مشروع الزيارة معتذراً قرّرت أن تكون هذه الزيارة لحسم موقفي منها، والانفصال عنها كلية.

وبالرغم من أن أسرتها نفت تلك الوشايات، ولمحتُ في عينها دموع الدفاع عن علاقتنا، إلّا أنني كنت مشحوناً بظلمات الوشاية. مصرّاً على موقفي. وهكذا انتهى الأمر بالانفصال!! وليتني ما كنت تسرّعت! لقد اكتشفت بعد فوات الأوان أن ابن خالتها هو الذي رسم هذه الخطة لإزاحتي عن طريقه لينفرد بها.

أراد أن يدافع عن رفضها له، بأن ينتصر عليّ، وأن يضعها أمام الأمر الواقع. وهكذا خطط لزياراته اليومية دون أن يكون مرغوباً فيه. وفي نهاية المطاف فاز بها على الرغم من عدم رغبتها به، إلّا أنّه بحضور المادة، هذا يعني أن الأزمة لا بد لها من حل، وهو القادر في وقتها على حسم الأمور لا سيما أنه مكتفٍ مادياً، وفي المقابل كنت في وقتها بحاجة إلى وقت ووقت طويل كي أحقق المزيد من الأمنيات والأحلام والرغبات، وفي مقدمتها وأهمها إكمال دراستي التي كانت حلماً وردياً بالنسبة لي.

***

الآن.. تجاوزت سنّ الخمسين! وفي هذه السنّ تصبح أخطاء الماضي تجاربنا وخبراتنا. الآن، وأوراق الخريف من ورائي تعصف بها السنوات.. تلوح لي ورقة كانت شديدة الاخضرار، وأنني أنا الذي أحرقتها ذات يوم غائم في سن الشباب.

لكن.. ماذا يجدي الندم بعد فوات الأوان؟!

دلالات

6C73D0E8-31A0-485A-A043-A37542D775D9
عبد الكريم البليخ
صحافي من مواليد مدينة الرقّة السوريّة. حصل على شهادة جامعيَّة في كلية الحقوق من جامعة بيروت العربية. عمل في الصحافة الرياضية. واستمرّ كهاوي ومحترف في كتابة المواد التي تتعلق بالتراث والأدب والتحقيقات الصحفية.