من المبكّر الحديث عما يجري على جبهة الوعي الإسرائيلي، قبل أن تضع الحرب في قطاع غزة أوزارها، وخصوصا أن مفاعيل عملية كيّ الوعي لم تنته بعد، وأن دواخلها لم تخرج إلى السطح، بفعل الصدمة الاستراتيجية والرقابة العسكرية الصارمة والتستّر على الحقيقة المريرة.
تمكّنت حرب الاحتلال الإسرائيلي ضد المستشفيات من سرقة أضواء كثيرة، ونجحت في حرف الأنظار، بعض الوقت، عما يجري من حرب إبادةٍ تُبثّ على الهواء على مدار الساعة منذ 44 يوماً، إلا أنها كانت أشدّ صفحات الحرب على غزّة سواداً.
أعتى الجيوش عدّة وعتاداً، وأعظم القادة العسكريين في التاريخ المعاصر، تهزمهم صورة طفل مسجّى بين ذراعيّ أبيه. ما شهده القطاع الفقير البائس المجوّع، لم يكن في حقيقته حرباً بين جيشيْن، بل كان عدواناً غاشماً بكل ما في الكلمة من معنى.
أنهى زعيم حزب الله، حسن نصرالله، خطابه المرتقب بفارغ الصبر، بعد نحو مائة دقيقة، على نحو مخيّبٍ لآمال المتعطّشين لوقفة عزٍّ نادرة، لكتابة صفحةٍ أخرى في كتاب الملحمة الجارية، ما دفع مخاطبين بهذه الإطلالة إلى القول بحسن نية صادقة: ليت الرّجل ظلّ صامتاً.
كل السعار المستشري في أوصال مجتمع مسّه الجنون منذ صبيحة يوم 7 أكتوبر، مجرّد رد فعل عصبي على هذه الضربة الاستراتيجية، التي زلزلت الأرض تحت أقدام قومٍ جاءهم الطوفان وهم يغطّون في سبات يوم السبت، وإنما هو الذعر بعينه، هو الهستيريا والهلع.
دولة الاحتلال والعدوان، بقادتها السياسيين والعسكريين، تبدو اليوم وكأنها تحلّق بطائرةٍ حربيةٍ في سماء غزّة، وإن الربّان والملّاح وطاقم الطائرة، وربما الرّكاب، قد أصابتهم نوبةٌ من الجنون، في محاولةٍ مستميتةٍ لمحو آثار هزيمةٍ تاريخيةٍ فارقة.
أثمن ما جرفته عملية المقاومة الفلسطينية طوفان الأقصى تمثّل في ثلاث بقرات حمراء مقدّسة في ملّة الحاخامات، أولها بقرة الاستيطان، والثانية فقدان الثقة بالجيش، وتحولت البقرة الحمراء الثالثة من كونها الذخر الاستراتيجي للغرب إلى دولة من العالم الثالث
معطيان متحققان في اليوم الأول من معركة طوفان الأقصى، الأول ماثلٌ في كسر غرور القوة، أو قل تحطيم الصلف والاستعلاء وروح الغطرسة، الثاني ماثلٌ في مسألة كيّ الوعي، الذي عمل عليه قادة مؤسسة الاحتلال طويلاً، وحاولوا من خلاله كيّ الوعي لدى الفلسطينيين.
ليس في وسع المرء تجاهل آلام شعوب وأقوام أخرى في هذه الديار التي كابدت ما كابده ضحايا المثلث الأرمني الكردي الفلسطيني سيئ الطالع، ولا أن يخفّف من حدّة عذابات كل من عبر فصول محنة الاقتلاع. أصحاب مثلث النكبات الكبرى هم الراسخون في الوجع الإنساني.
فدى جريس، الكاتبة الخجولة المتواضعة، إن لم تكن قد صنعت فرقاً أو أحدثت نقلة في مضمار الرواية الفلسطينية، في الداخل وفي ديار الشتات، فإن رواية "غريبة في وطني" جاءت بمثابة مدماكٍ متميّز في معمار الرواية الفلسطينية متعدّدة الأصوات.