قصة أزمة السيولة في المغرب

قصة أزمة السيولة في المغرب

15 ابريل 2014
+ الخط -


عرفت السوق النقدية بالمغرب في ما مضى وفرة في السيولة، ستتحول إلى مشكلة حقيقية ، مباشرة بعد إنجاح أكبر عملية خصخصة (بيع القطاع العام التابع للدولة ) عرفها تاريخ البلد ، التي تم تحصيل من ورائها مداخل مالية ضخمة ، فاقت في حجمها ضعف ما كان متوقع من المراقبين والخبراء والسلطات النقدية حينها: ( تفويت الخط الثاني للهاتف المحمول ؛ خصخصة ثلث رأسمال اتصالات المغرب في استثمار أجنبي فاق 2 مليار من العملة الصعبة ..).

فكان هذا المبلغ المحصل عليه من العملة الصعبة، قد قُيّد في رصيد البنك المركزي ، وسجل مقابل له بالعملة المحلية في حساب خزينة الدولة . الشيء الذي لعب دوراً حاسماً في توسيع السيولة البنكية بطريقة غير مباشرة.

وبدأ كل هذا، أولاً بعمليات إجرائية للخزينة العامة التي استطاعت أن تسدد ما بذمتها لبنك المغرب ( البنك المركزى ) من الديون المترتبة على الدولة ، مند مدة طويلة ، وهرعت كذلك لتسديد قسط كبير من متأخرات ومستحقات المقاولات .

كما أن الوضعية المالية المريحة للبلاد التي استقرت عليها، وقتها، دفعتها لعدم اللجوء بشكل مستمر إلى اصدار السندات والاقتراض من الداخل بصفة متواترة كما كان سابقاً.

وهذا كان يعني أن المقترض الأول في السوق المالية، الذي هو خزينة الدولة تراجع عن دوره الوظيفي، وأمسى يتقاعس عن جلب هذه الموارد ، مما طرأ عنه أن المؤسسات المصرفية والبنوك، التي اعتادت بالمناسبة استثمار جزء كبير من رساميلها في الاكتتاب في سجل السندات التي تعرضها الدولة ، وقعت في مأزق توظيف حصة هامة من السيولة المالية المتجمدة لديها.

كما أنه، من جهة أخرى، فإن السوق المغربية ، ونظراً لضيقها آنذاك وعدم اتساعها بما يكفي، لم يكن بمقدورها تدوير وتصريف، اقتصادياً، كل الموارد المحصّلة من العملة الصعبة إذا تم ضخِّها محليا؛ زيادة على أن وتيرة النمو الاقتصادي، لم تبلغ السرعة اللازمة التي تسمح بامتصاص جزء كبير منها.

مر، إذن، عقد من الزمن على تلك الفترة، وما حدث فيها من قرارات تصاعدية واحتياطات اجرائية مهمة على المستوى البنكي في المغرب ، وفي ظرفية قوية ،كانت متسمة بالانتعاش المالي على عدة أصعدة وفي عِزّ مسلسل الخصخصة وصفقاته التجارية الرابحة.

وكان أهم ملمح فارِقٍ اتسمت به السوق المغربية، هو ارتفاع السيولة البنكية بشكل كثيف و مٌقْلق ، لدرجة انه أثار تذمر أصحاب بعض المؤسسات المالية ، التي صارت بفضل التداعيات الاقتصادية في حالة اشباع ، محتفظة بفائض من الموارد ، وفي غنى عن اللجوء للبنك المركزي كما هو مألوف.

وطبعا كان في حوزة السلطات المالية السيادية آنذاك، أداة تقنية اجرائية معروفة لدى الأوساط لتدبير الأزمات النقدية الطارئة ، وتتمثل أساساً ، في سعر الفائدة الذي تطبقه على التسهيلات الممنوحة للبنوك في السوق المالية والذي تسعى من خلاله إلى توجيه مركّز لأسعار الفائدة في المرافق الأخرى.

لكن مع وفرة السيولة صار الأمر صعباً، وكان سيتطلب اتخاذ اجراءات مغايرة تُناسب تعقيد الحالة تلك. على رأسها مثلا، تدخل البنك المركزي اضطرارياً ، لسحب الكتل النقدية العائمة والحفاظ على مستوى معقول من سعر الفائدة ، في مجمل السوق ، بطرح ما يملك من سندات الخزينة للبيع حتى تكون وسيلة لامتصاص ما يكفي من فائض السيولة ....

وصولاً إلى نقص في السيولة

فماذا حدث يا ترى بعد كل هذه المدة الزمنية، حتى صرنا في وضعية، أشبه بالتضاد المطلق لما خبرناه سابقاً.

فمن ظرفية شهدت زمنياً وفرة مالية أقرب للتضخم ، إلى فترة مُنْكمِشة حاليا ، يتقطعها نقص وشح متواصل في السيولة النقدية، على مدى هاتين السنتين المتتاليتين من عمر الحكومة المخضرمة.

وفقا للمقررات الأخيرة، التي يصدرها البنك المركزي تباعاَ، بلغ نقص السيولة من البنوك رقما قياسيا. وهو الرقم الذي يعكس الصعوبات، التي يواجهها تمويل الفاعلين المستقلين والمقاولات الكبرى والصغرى بالقروض .

ويأتي هذا التدهور، بعد شهور من قرار مدير بنك المغرب للحفاظ على سعر الفائدة الرئيسي إلى 3٪، وخفض معدل 4 ٪ من الاحتياطيات اللازمة، ومواصلة التدخل لتعزيز السيولة في النظام المصرفي وبالتالي تحريك الدينامية وإعادة تشغيل آلة القروض البنكية التي توقفت تَحَسّبا للمخاطر.

أجزم أن نقص السيولة أصبح من المعطيات البنيوية بالنسبة للنظام المالي راهنا، لذلك جاءت تدخلات البنك المركزي في هذه الأواخر بهدف إعطاء وضوح رؤية أكبر للبنوك، في إطار ممارسة دورها في تمويل القطاعات، ويبدو جيدا، أنه مستعد دوماً ،ودون تحفظ، لضخ ما يجب من المال في شرايين النظام البنكي من أجل دعم النشاط الاقتصادي.

لكن، هل هناك فعلا متابعة شفافة للمتعاملين في السوق، وعن طريق وسائل فعاّلة لتوفير المعلومات أكثر فأكثر، وبما يلزم من السرعة الراصدة للتحويلات المالية. فعندما يتعلق الأمر بتمويلات سليمة، وموجهة خصوصاً للاستجابة إلى حاجيات الاقتصاد المحلي، فليس هناك أي تردد في التشجيع على ضخ المال. لكن عندما يكون العكس فما هي فعلا الإجراءات التي تتخذ من السلطات؟

للأسف والواضح بالنسبة لنا، أن ما يصلنا نحن البعيدين عن مواقع القرار، من مثل هذه الاختيارات النقدية الموجهة، لا يعتبر بالنسبة لنا كثمرة خالصة لنقاشات عامة وحوارات يحددها مشاركون على قاعدة ديموقراطية تشاورية تصبو للوفاق الاقتصادي.

المؤكد لدينا أن البنوك لم تعد تمنح القروض بالشكل المطلوب منها ، فالعديد منها لجأ إلى سياسة النعامة، وإدارة الظهر والامتناع عن منحها إلا بشروط وضمانات إضافية قسرية.

هذه الوضعية صار يعلمها حتى الفرد العادي من عامة الناس، النائي بالمطلق عن متاهات الدوائر المالية و تعقيداتها.والأدهى أنها بررتها، طبعا وكما هو متوقع، بالنقص الحاد في السيولة الذي تعاني منه السوق المالية، وبارتفاع مستوى المخاطر!.

ومع ذلك وفي المقام الأول، لا علاقة للتشديد في إعطاء القروض من قبل البنوك بعدم وجود سيولة كافية، ولكن في نظري، إحجامها مرده أساساً تخوفها المُزْمِن من أن تلج رأساً بوّابة مخاطر الاستثمار، التي توجد مباشرة في خط تماس الشركات واستيفاء تعهداتها ، علاوة على هروبها الحربائي الدائم من هشاشة الاقتصاد الراكد .

مبدئيا ، كان خفض سعر الفائدة من طرف البنك المركزي فرصة مقدمة للبنوك لتعيد تمويل عملائها بكلفة منخفضة وتشجيعهم على الاستفادة ، وخلق بذلك دورة مالية حميدة في شرايين الاقتصاد.

ولكن بدلا من ذلك ، فإن البنوك يفضلون وضع أموالهم في سندات الخزينة بأقل المخاطرات أو اللجوء في أسوء الحالات لتجميد الموارد لمدة قصيرة لدى الدولة و الحصول مقابلها على فوائد مُؤمَّنة.

 ولسد العجز المتفاقم في الميزانية تقوم الدولة ، عند الضرورة ، باصدار سيادي لمحفظة سندات و بامتيازات جد مُغْرية ، الشيء الذي ستكون له آثار جانبية سلبية ؛ فمن جهة سيحد من مستوى التمويل الاستثماري الموجه أصلا لقطاعات اجتماعية والمشغل للمقاولات ، وثانيا ، سيزيد من تكلفة القروض من خلال تضخم الطلب على السوق .

ومعه ستبرز شكوك جديدة وخاصة حين نتلقف تصريحا تحذيريا من والي ( محافظ ) بنك المغرب ، يعلن فيه أن البنك المركزي عازم على مواصلة التمويلات طالما أن التسهيلات التي يمنحها للبنوك ، توجه إلى تمويل النشاط الاقتصادي وليس للمضاربة .

وهكذا، بدلا من تصريف الدورة المالية الحميدة لإنعاش الاقتصاد المتضرر و أن يقوم كل فاعل على حدة بدوره الوظيفي الموكول له ، دخلنا إلى الدائرة المفرغة حيث يتم تبادل الاكتتابات و مجاملات العرض و الطلب من طرف الدولة و المؤسسات البنكية الأكثر ثقلا في البلد ؛ فالبنك المركزي يضخ مزيداً من السيولة في حساب البنوك و يخفف عنها بذلك عطالتها، وهي بالمقابل ترد له الجميل و تمول عجز الدولة المزدوج والمتفاقم : عجز الموازنة وعجز الميزان التجاري .

ومن فترة الوفرة في السيولة إلى ما نحن عليه ، الآن، من شُح ونقْص متفاقم ، فإن الواقع الاقتصادي عرف فعلاً هزات و تحولات هيكلية نسبية لها آثارها البينة كل هذه المدة ، استقراءً وتحليلاً ، لكن في الوقت نفسه ، صار يتعذر علينا فهم الدور الحقيقي لبعض المؤسسات المالية في النسيج الاقتصادي، بعدما اتجه معظمها إلى نهج سياسة الاحتراز والانكماش والربح السريع ، والاستفادة من الادخار العمومي، وفي المقابل لا تبادر بأي تضحية مالية عند اللزوم ...فمتى سيفهمون ؟؟.

المساهمون