14 شباط اللبناني: عشر سنوات من التراجع والفشل

14 شباط اللبناني: عشر سنوات من التراجع والفشل

13 فبراير 2015
يخسر الحريري جمهوره الذي يلجأ إلى التشدد (getty/رمزي حيدر)
+ الخط -

من المتوقع أن يعود زعيم تيار المستقبل، سعد الحريري، إلى بيروت، غداً الجمعة، لترؤس الذكرى العاشرة لاغتيال والده، رئيس الحكومة الأسبق رفيق الحريري، في 14 فبراير/شباط 2005. تشير أجواء متقاطعة في "المستقبل" إلى هذا الأمر، من دون أي يكون للمسؤولين المستقبليين أي معلومات يقدمونها في هذا الإطار. يتحدث هؤلاء عن معطيات فقط، باعتبار أنّ عودة "الرئيس المغترب" إلى خارج البلد منذ الإطاحة بحكومته (في يناير/كانون الثاني 2011)، تستوجب الكثير من الحذر الأمني نتيجة الاغتيالات والتهديد الذي رافق قيادات فريق "14 آذار" (12 اغتيال وثلاث محاولات فاشلة) منذ 2004. حتى إنّ الزيارة الأخيرة التي قام بها الحريري إلى لبنان، في أغسطس/آب الماضي عقب معارك عرسال (عند الحدود الشرقية بين لبنان وسورية)، اقتضت تعتيماً كاملاً حتى على أقرب المقرّبين من الحريري. مدير مكتبه، نادر الحريري، ومستشاره الأقرب، هاني حمود، لم يكونا على علم بحضوره إلى العاصمة اللبنانية.

ركب حمود الطائرة مع الحريري من الرياض متوجهاً إلى باريس، وقبل وصول الطائرة إلى البحر المتوسط حطّت في بيروت. علم نادر بالأمر فقط عندما كان على متن الخطوط الجوية بين باريس وبيروت. حتى المواكب الأمنية الخاصة بعائلة الحريري، تفاجأت ببعضها في مطار رفيق الحريري الدولي (مطار بيروت)، من دون أن يكون لها علم بأي حركة من هذا النوع.

في الذكرى العاشرة لجريمة 14 شباط، تحوّل الحدث من الحديث عن أبرز اغتيال سياسي

شهده تاريخ لبنان المعاصر، إلى عودة الحريري الابن إلى بلده. حوّل مسؤولو "المستقبل" الذكرى إلى هذه الوجهة، هرباً من واقع سير الأمور طوال السنوات العشر الماضية. دبّت الحركة من جديد في قطاعي الأمن والبروتوكول المستقبليين، في حين أنّ المراجعة السياسية الفعلية متروكة لعدد من المستشارين الجالسين في مكاتبهم، يعدّون بكثير من التخبّط أوراقاً على المستقبل وحلفائه مناقشتها حول واقع فريقهم ومشروعهم السياسي.

يمكن ملاحظة هذا التخبط أولاً في الشكل، من خلال الشعار الذي أطلقه المستقبل لهذه الذكرى، أي شعار "عشرة، ميّة، ألف سنة مكمّلين". يُراد من هذا العنوان القول إنّ المستقبل يتابع مسيرة شهيده المؤسس، في حين يمكن فهمه على نحو مختلف يقول إنّ السنوات العشرة الماضية لم تكن كافية لإعادة استنهاض هذا المشروع، وقد يتطلب الأمر مائة أو ألف سنة أخرى. وقد تبدو مظاهر الإنهاك والتراجع والفشل جليّة على هذا المشروع، بفعل كثير من الوقائع والأسباب. وما دام تيار المستقبل يشكّل العامود الفقري لفريق 14 آذار، لما يمثله طائفياً وسياسياً ومالياً، وحتى إقليمياً، فإنّ ضربه يعني شلّ الفريق كاملاً. أي انتهاء وإنحلال الحلم الوردي بالـ "الحرية، السيادة والاستقلال" وسائر الشعارات التي رفعها هذا الفريق يوم أعلن ثورته ضد الوجود العسكري السوري، انطلاقاً من دم الحريري الأب. 

انكسار المشروع

بعد عقد من الزمن، أول ما يمكن تسجيله في المسيرة المستمرة لـ "المستقبل" وحلفائه هو سقوط لبنان في القبضة الفعلية لحلفاء النظام السوري. فتح اغتيال الحريري ملف الوجود السوري في لبنان، وعلى هذا الأساس احتشد مئات آلاف اللبنانيين في ساحة الشهداء (وسط بيروت) يوم 14 مارس/آذار 2005. أعلن الحشد وزعماؤه ثورة على النظام حينها، فخرج الجيش السوري من لبنان في أبريل/نيسان من العام نفسه. وفي حين يتخبّط هذا الجيش في سورية اليوم دفاعاً عن نظامه بوجه شعبه، يتحكّم حزب الله بمفاصل القرار في الدولة اللبنانية. في الأمن (الجبهتان الجنوبية والشرقية، بالإضافة إلى الداخل اللبناني)، والسياسة والدستور (تعطيل انتخابات رئاسة الجمهورية)، يسيطر الحزب ويعجز المستقبل عن الحركة.

منذ عشر سنوات، كان شعار هذا الفريق: "سحب سلاح حزب الله". أما اليوم، فأقصى الطموح هو تفكيك الحزب لسلاح سرايا المقاومة (المجموعات الحزبية والمنظمة التي يدعمها الحزب في كل المناطق اللبنانية لبسط سيطرته الأمنية). وكيف يتمّ ذلك؟ من خلال حوار مباشر مع الحزب المتّهم أصلاً من قبل المحكمة الدولية الخاصة باغتيال الحريري بتنفيذ جريمة 14 فبراير/شباط 2005. أي أنّ مساعدي الحريري يجلسون مع متهمين بقتل والده، ويساعدون اليوم في قتل الثورة السورية، ومع الطرف الذي أقصاه عن السلطة والبلد، ومع العسكر الذين اجتاحوا العاصمة بالسلاح في أحداث 7 مايو/أيار 2008.

يأتي هذا المشهد نتيجة تراكم الفشل في إدراة الملفات داخل المستقبل وفريق 14 آذار. فلا يمكن سوى استذكار العديد من المحطات الرئيسية في السجّل السياسي الحافل بالأخطاء والانكفاءات، وقد يكون أبرزها "التحالف الرباعي" الذي جمع قوى 14 آذار بحزب الله في انتخابات 2005، بعد أشهر من اغتيال الحريري. ومن بعدها حكومات الشراكة الوطنية التي جمعت الطرفين، وصولاً إلى اتفاق الدوحة (عقب أحداث مايو/أيار 2008) الذي كرّس وجود حزب الله في السلطة بقوّة انتخابية أو من دونها.

شلل تام

يذكّر جلوس التيار إلى نفس طاولة الحوار مع الحزب، بمشهد الزيارات الثلاث التي قام بها سعد الحريري إلى دمشق، كرئيس للحكومة اللبنانية عامي 2009 و2010. حينها كان نظام الأسد لا يزال متهماً بجريمة 14 فبراير/شباط، تماماً كما هي الحال اليوم مع الحزب.

جلس الحريري على طاولة الرئيس السوري، بشار الأسد، مسيّراً من قبل السياسة السعودية. تناسى كل شعارات الحرية والاستقلال والعدالة وخطى على وقع التفاهم السعودي - السوري حينها، أو ما عرف بـ "تفاهم السين سين". استمرّ الأمر لحين الإطاحة به من الحكومة، ليدفع

الحريري بذلك ثمن تراجع راعيه الإقليمي، أي السعودية التي تستمر في الانكفاء السياسي في المنطقة منذ أكثر من عشر سنوات. من اجتياح العراق إلى واقعه اليوم، ومن السلم الهش في اليمن إلى الحرب الدائرة فيه منذ أشهر، وكذلك هي حال المملكة في الملف السوري الذي أمسكته أيادٍ غربية وإقليمية أخرى. عام 2012، وجد هذا المحور في الثورة السورية خشبة خلاصه من التخبّط المستمر. وقال الحريري قبل ثلاث سنوات إنّ عودته إلى بيروت ستكون من "مطار دمشق المحررة". استمدّ التيار الأمل من أظافر أبناء درعا السورية، ومن أرواح أبناء الغوطة، ليواجه حزب الله من خلالهم ويحاوره في الوقت عينه.

تعيش الثورة في سورية أياماً سوداء، وكذلك هي حال الحريري وفريقه. وحالة التشدّد المذهبي التي تعيشها الثورة في سورية، انتقلت أيضاً إلى ضواحي تيار المستقبل التي وُلد من رحمها ثلاثة انتحاريين على الأقل فجروا أنفسهم في العراق. فلم يعد خطاب الحريري يقنع جمهور طائفته السنية الذي بدأ يجد "بديلاً" في التنظيمات الإسلامية الجهادية.

فقد مشروع 14 آذار توازنه في الظروف الإقليمية الخطرة. فرأس هذا المشروع، أي تيار المستقبل، لم يكن معدّاً أساساً لخوض تجربة ممثالة، باعتباره تياراً تأسس من كنف السلطة واعتاد البقاء في صلبها، ولا يفهم أسلوب المعارضة ولا مفاهيمها. لم يولد المستقبل من رحم مليشيات الحرب الأهلية، وتنحصر تجربة الحريري الأب في مهمة إعادة الإعمار كمشروع اقتصادي قادر على جمع كل الأضداد السياسيين والعسكريين في لبنان. جاء الاغتيال ليطيح برأس هذا المشروع، وليفتح لبنان أمام مرحلة توتر أمني لا يعرف المستقبل وقيادته ومسؤولوه كيفية التعامل معها وفيها أصلاً. ولو أنّ هذه المرحلة حملت في يوم من الأيام مشاريع وألواناً وردية.