يا نايم وحّد الدايم

يا نايم وحّد الدايم

17 يونيو 2015
"أنا حابب شوفك يا مسحّر، طبّل ع طبولك..."(فرانس برس)
+ الخط -

"ولا مرّة وعّتني إمّي حتى إتسحّر، كلّ مرّة بيمرق رمضان وبتقلّي زغيّر.. أنا حابب شوفك يا مسحّر، طبّل ع طبولك"... ويختلط صوت المطر المنهمر غزيراً بأصوات أطفال دار الأيتام الإسلاميّة وهم ينشدون "علّوا البيارق".

يشتدّ خبط المطر، فترفع إحدى الصديقات صوت مذياع السيارة قبل أن تعلو أصواتنا أكثر ونحن نرافق هؤلاء الصغار "وأبو أحمد يرقص كرمالا والحجّة تزلغط زلغوطة تودّي لبعيد"... كأن أغنية أحمد قعبور تلك تحوّلت طقساً من طقوس الشهر الفضيل، تماماً كتلك الفوانيس الملوّنة الضخمة التي تنتشر في منطقة رأس بيروت وتضيء آخر ليالي رمضان. كان ذلك في يناير 1999.

***

فبراير 1995.. للمرّة الأولى أقصد صديقتي في صيدا. أصرّ على الصيام. هذا صيامي الأوّل. أما تلهّفي الأكبر، فباعثه المسحّراتي. هو ما زال يتنقّل في الحارات الشعبيّة، وأنا لطالما أذهلتني تقاليد الناس.. وما زالت. من فرط حماستي، أعجز عن النوم. وما إن تغمض عيناي، حتى يصدح صوت زاعق "قوموا على سحوركم.. جايي النبي يزوركم" على وقع ضربات إيقاعيّة. أركض إلى الشرفة، حافية القدمَين. لا أريد تفويته. في الأسفل، كان الرجل الستينيّ يرتدي جلباباً بنياً ويحمل عبوة من التنك يضرب عليها بعصا خشبيّة غليظة. ويكمل هتافه "يا نايم وحّد الدايم.. يا نايم وحّد الله".

***

ديسمبر 1998.. البرد قارص في غرناطة الأسبانيّة. يوم واحد يفصلنا عن ليلة عيد الميلاد. أمشي في الشوارع التي تزيّنت بالأحمر والأخضر، ووجهتي تلك الأكشاك التي نُصبت على جادة للمشاة في وسط المدينة. في أوّل السوق المؤقّت، بائع غزل بنات. لطالما اشتهيته وأنا صغيرة، ولطالما نهتني والدتي عنه.

أشتري كتلة هشّة زهريّة اللون، وأتذوّقها نتفاً نتفاً مثلما حلمت دائماً. تتلوّن أصابعي بزهريّ فاقع. وبسعادة لا توصف، أتجوّل بين الأكشاك حاملة العود الخشبيّ الرفيع الذي تلتفّ حوله تلك الكتلة الهشّة الضخمة. هنا، معروضات شرقيّة مطعّمة. لا يمنع البائع الكهل نفسه من انتقادي لتناولي غزل البنات. أبتسم، وأشكره على اهتمامه. وأخبره بلغة أسبانيّة متردّدة بأنه حلو الطعم، وأنصحه بتذوّقه. يبتسم بدوره، قبل أن يقول: "لا أستطيع، نحن في رمضان". أهتف: "رمضان؟ سُويْ ليبانيسا!". كأن "رمضان" هو الكلمة السحريّة التي كنت أنتظرها في صقيع هذا اليوم. "أنتِ من لبنان.. وأنا سوريّ. تشرّفنا". ويمتدّ الكلام.

يتوقّف فجأة ليسألني: "هل تتكلمين العربيّة؟". نستكمل حديثنا بلغتنا، قبل أن أشتري علباً صغيرة مطعّمة وأودّعه بـ "رمضان كريم". وأبتعد على وقع "الله أكرم".

اقرأ أيضاً: ملاك كايرو

المساهمون