وطنٌ مقابل حصان

وطنٌ مقابل حصان

13 أكتوبر 2015
+ الخط -
"حصان- حصان- مملكتي مقابل حصان" أقصر سطرٍ صرخ به البطل في مسرحية وليم شكسبير"الملك ريتشارد الثالث".
ربّما لم يتوقع شكسبير أنّ هذه العبارة الصغيرة في مسرحيته التي تتألف من 3609 سطراً سُتخلّد في ذاكرة مسرح عصر النهضة والأدب العالميّ. ليس لأنّها تحتوي صنوفاً من البلاغة والتشبيه لا مثيل لها في المسرح، أو لأنّ شكسبير صبّ فيها عبقريةً شعرّيةً تُفرّدها عن غيرها في مسرحياته، فهي عبارةٌ بسيطةٌ لا تحتاج في خطّها لقريحةٍ شعريّةٍ، وذلك لو أُخذت خارج سياقها النصّيّ. ولكن "خير الكلام ما قلّ ودلّ"، وصدى"مملكتي مقابل حصان" سيظل يتردد في كلّ عصور الظلم والاضطهاد، لأنّها تلخّص نهاية الطغاة، وترسم، ببضع كلمات، صورة الطاغية الجبان، عندما يميل عرشه إلى السقوط، فيبيع المملكة والوطن بأبخس الأثمان، لأنّ الأوطان للطغاة ليست إلّا ملكيات شخصّية ومساحات جغرافيّة لبسط النفوذ وتكديس الأموال، والبشر ليسوا إلّا بيادق في شطرنج مملكتهم.
لم يدرس شكسبير علم النفس، ولم يكن عرّافاً بكرةٍ بلّوريّةٍ ليسبر أسرار المستقبل. كان فنّاناً خطّ في مسرحيته تفاصيل دقيقة عن سمات الدكتاتوريات في كلّ الأزمنة، فجاءت مسرحية "الملك ريتشارد الثالث" لتقدم دراسة شعريّة ونفسية عن مراحل نشأة الدكتاتور وتطوره، ثم سقوطه المحتوم، ففي مونولوج الفصل الأول من المسرحية يقدم ريتشارد نموذجاً كاملاً عن الشّر، يُؤثر فيه الدمار على الحب، في قرارٍ منه أن يمنح أيام السّلام "الجميلة الزاهرة" في بلاده بغضَه وحقدَه.
تطوّر حقد ريتشارد من مكائد وإشاعات تُنشب الخلافات في البلاط الملكيّ إلى صراعٍ دمويّ للوصول إلى العرش، فكان السّيف والدم"حصانه السّريع" في الوصول إلى مبتغاه. وصل ريتشارد "الأحدب" إلى غايته، فتقلد صولجاناً لا يليق به، وعرشأً كبيراً عليه، فغذّى جشع السّلطة إدمانه على قتلٍ لم يسلم منه أقاربُه وموالوه، وهنا كانت بداية نهايته، فانفضت عنه مملكته، وحتّى حصانه هجره ليبقَى وحيداً في ساحة الوغى، ويُصرع على يد غريمه ريتشموند، بدمويّة تنبأت بها له الملكة.
قُتل ريتشارد، لكن شخصيّته الدمويّة لم تمتْ، وبقيت تتقمص في طغاةٍ كثيرين، عبر الأزمنة والبلدان، فكان هتلر ألمانيا، موسوليني إيطاليا، نيرون روما، قذافي ليبيا، كم جونغ أون كوريا الشماية، أسد سورية، والقائمة تطول بأسماء الطغاة. وأصبحت للطغاة عقائد ومناهج ومدارس، كالنازية والفاشية والبعثية، لكننا ندرك أنّ للطغاة منهجٌ واحدٌ، لم تتبدل حروفه وكتبه، منذ فجر الإنسانية، فهم جميعاً يرتادون مدرسة "اللإنسانية"، ويتخرجون منها وحوشاً.
شروط الانتساب لتلك المدرسة بسيطة: عبادة السّلطة والميكافيليّة والنرجسية والدموية، وهي صفات شدّد عليها شكسبير في شخصية ريتشارد الثالث. كلّ الدكتاتوريات طلّاب متفوقون في مدارس السّادية، بل حتّى مبدعون في صفوف التعذيب والقتل، لكنّهم فاشلون في مدارس التاريخ، فلا يتعلمون من دروسه ولا يعتبرون من قصصه، فتُحفظ صفحات "إنجازاتهم أو ويلاتهم" في زواياه السّوداء، وتترك بصماتهم في الوجدان الإنساني تأثيراً أقوى من أسلحة الدمار الشامل، فهم بجنونهم يبيدون ملايين البشر، ويمسحون مدناً عن خريطة الأرض، موّلدين هيروشيما وناكازاكي أينما حلّوا.
لم نعد بحاجة أن نقرأ عنهم في في كتب التاريخ أو الأدب، أو نزور خشبة المسرح لمشاهدة قصصهم، أو حتى نتابع فيلماً وثائقيّاً "بالأبيض والأسود" مذهولين بوحشيتهم. أصبحت عروضهم حيّةً مباشرةً، تراقبها البشرية جمعاء في بثٍ مباشرٍ على التلفاز، يشبه "تلفزيون الواقع" بالمسمى العصري، أو "حلبة الكولوسيوم" بالمسمى الرومانيّ"، فشخصيات العرض بشرٌ حقيقيون، يتعرضون للقنص و"الصيد" من أجل قضيةٍ نبيلةٍ: "الحفاظ على عرش الدكتاتور".
وقف ريتشارد في الفصل الأخير من عرضه في القرن 16 يستنجد يائساً "مملكتي مقابل حصان!"، فكانت صرخته نذير شؤمٍ لمن بعده، فصرخ زين العابدين بن علي، في القرن 21، "تونس مقابل طائرة"، وها هو الأسد يصرخ كلّ يوم "وطنٌ مقابل كرسيّ"، محولاً بذلك سورية إلى ساحة صراع أولمبييّ لكلّ القوى العالمية الكبرى والصغرى والإرهاب والدواعش والشّبيحة والمرتزقة والمافيات واللصوص وتجّار السّلاح والبشر. و لكلّ من يرغب بالحصول على الميداليّة الذهبيّة في محاولةٍ يائسةٍ منه لتغيير الفصول الأخيرة من مسرحيته، متناسينً أنّ سورية ليست مملكته، ولم تكن يوماً "سورية الأسد."
2DC2FE6C-2C1A-4284-8503-53978EEA94FA
2DC2FE6C-2C1A-4284-8503-53978EEA94FA
سيناء دبّاغ (سورية)
سيناء دبّاغ (سورية)