شهرزاد بعد ألف صبح وصبح

شهرزاد بعد ألف صبح وصبح

25 أكتوبر 2015
+ الخط -
شهرزاد صاحبة أخصب مخيلّةٍ بين نساء الأرض، لم ينضب خيالها لآلاف الليالي، فنسجت للسلطان قصصاً بكلّ الزخارف الأدبية، تراوحت من أدب الجريمة والرعب للفانتازيا والخيال العلمي والمغامرات والشعر. لأكثر من ثلاث سنواتٍ، بَنتْ شهرزاد لشهريار قصوراً ورسمت وحوشَ بحرٍ وعمالقةَ وسحرة إسطوريين لتأسر ليله بالسجع والشعر والروايات، فانتظر الليالي بشوق، لأنّها ملأى بالأخبار والسمر، أما ليالي شهرزاد فكانت ملأى بالترقب والخوف والأمل، لأنّها الفيصل ما بين الموت والحياة. كلّ صبح كانت أختها دنيازاد تقبّلها قبلة الوداع الأخيرة، ويشحذ والدها الوزير سيفه، منتظراً أوامر سيده بالقتل، في حين أن شهرزاد تولد من جديد كل صبح، فأرّختْ في حياتها ألف ولادةٍ وولادة. قايضتْ شهرزاد العمر بالقصص، وحوّلت الحكايا إلى طوق نجاة من غضب السلطان، وبعد سنواتٍ من الصبر، هزمت الموت بسحر الكلام، لا بقوة الحسام. وبعد ألف صبح وصبح، أُعطيت تاجاً ولقباً لتصبح الملكة شهرزاد.
رحلتْ شهرزاد أم أرادت أن يبقى الكون يضجّ بآلاف الحكايا، و ترنّ في أصداء هذه المعمورة شتّى القصص، منها ما تفرّق بين البيوت المزدحمة في قلب المدينة الصاخبة، أو أطراف القرى المنسية، ومنها ما تجمع كأنّاتٍ تحت سقف مخيمٍ واحد أبعد ما يكون عن قصر شهريار في هيئته وفخامتة. كثرتْ المخيمات في القرن 21، ففاقت قصصَ شهرزاد عدداً. وربما مخيّم "ستورا إيكي بيري" في سكارا بوريا الذي زرته هذا الصيف في السويد، ليس إلّا مجلّداً رقيقاً في قصص الحياة والمعاناة والفراق: قصص حقيقية تشبه في تفاصيلها الخيال العلمي، وحوشها بشرٌ مثلنا، ورحلات بحورها مغامراتٌ لم يعشها حتّى السندباد البحريّ. تعيش في مخيم" ستورا إيكي بيري" (كغيره من المخيمات الكثيرة، وهنا نذكره على سبيل المثال) شهرزادات كثيرات. كن يوماً نساءً عاديات حلمن بالحب والزواج والعائلة والدفء، ومثل كلّ نساء الأرض، كانت ابتسامات أولادهن أثمن كنوز الحياة. لم يتحدثن، يوماً، إلّا بأخبار الحيّ وأحاديث البلد اليومية، إلى أنْ تحوّل أولادهن خبراً عاجلاً في أسفل شاشات التلفاز، وأرقاماً في سجلّات حقوق الإنسان. حوّلت الحروب وفظاعاتُ الإنسانِ ضد الإنسان هاتي النسوة إلى قاصّاتٍ، يسردن حكايا كتبتْ حبكتها الحياةُ وختم نهاياتها الفراق والموت، فملأت الأحزان جعبتهن قصصاً عن الأحبة الذين غادروا من دون فرصة الوداع، عن الأبناء الذين قضوا قتلاً أو غرقاً أو اعتقالاً. تعددت الأسماء و الموت واحد. تُمضي هؤلاء الشهرزادات أيامهن بقلوب كسيرةٍ مثقلة بالهمّ، ومساءات مليء بأطياف من غابوا، ينتظرن المنام، لعلّهن يختلسن لحظةً يلتقين فيها في ذلك العالم الأثيري بالأحبة، يبحثن عن حجر "السلوى" في عالم المنام، ثم يحدقن في الصور لعلّ نار الشوق تكمد ثانيةً، فيتجمد الزمان كعيونهن، في صور الأحبة، حيث كانت الثغور باسمة، والعيون مقبلة على الحياة والقلوب خلية البال من الهمّ والأحزان، فتحترق الوجنات بالدموع. لن تتوقف آلاف الشهرزادات في آلاف المخيمات عن أحاديثهن آلاف الليالي، فعلى خلاف شهرزاد، ربما سيطوي النسيان قصصهن، ولن تذكر كتب الأدب حكاياتهن، ولن تتهافت المطابع على ترجمة مؤلفاتهن. ولكن، على غرار شهرزاد التي انتظرت ألف صبح وصبح، كي تشرق عليها شمس السكينة يوماً، وتستعيد حياتها من يد السلطان، لا زالت حفيداتها بانتظار ذلك الصبح البعيد. عندها، ستندمل جروحهن، ويودعن عالمنا إلى العالم الآخر المجهول، حيث لا ألم ولا فراق، بل سكينة وسلام. حتّى يشرق ذلك الصباح، ستبقى الأرض تضج بقصص كل الشهرزادات في كلّ مكان، ولن يسكتن عن الكلام الممنوع، أو المباح، فما عليك إلّا أنْ تصيغ السّمع في هدوء الليل لتسمع همساتهن وأنّاتهن وحكاياتهن.
2DC2FE6C-2C1A-4284-8503-53978EEA94FA
2DC2FE6C-2C1A-4284-8503-53978EEA94FA
سيناء دبّاغ (سورية)
سيناء دبّاغ (سورية)