وصية الشهداء الجماعية

وصية الشهداء الجماعية

10 ديسمبر 2017
+ الخط -
"وكم لغةً تجيد؟"

قال: "إن كنت تعني اللغات التي يتفاهم بها الناس فأنا أُجيد الألمانية والإنكليزية والفرنسية. وإن كنت تعني اللغة التي يفهمها أعداؤنا فهي لغتنا التي آمنا بها؛ لغة القوة، لغة التحدي والإصرار على الهدف، لغة السلام الحقيقي الذي لا يتجزأ؛ في فلسطين، في فيتنام، في كمبوديا، في أميركا اللاتينية وأفريقيا، في كل بقعة من الأرض عليها مضطهدون يقاتلون من أجل الحرية والعدالة".

كان ذاك سؤال قائد العملية، وكان هذا ردّ نائبه عليه.

عشر صفحات من أوراق الشهيد صلاح خلف (أبو إياد)، المحفوظة لدى المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، مؤرخة بتاريخ 4/9/1972، وتحمل عنوانًا واحدًا؛ "وصية الشهداء الجماعية". وأظنّها "جماعية" إلى الحدّ الذي يتجاوز عدد الشهداء الذين دوّنت باسمهم في ذلك الوقت، فهي صالحة لتنطق بلسان جميع الشهداء والمناضلين، السابقين منهم واللاحقين.

كُتبت هذه الوصية بأسلوب غير مألوف، فهي أشبه ما تكون بمحضر مسجل لآخر اجتماع ضم خمسة شهداء وثلاثة من رفاقهم قبل تنفيذ عمليتهم بساعات، ليجعلوا منها مرآة تعكس وجه الشهيد الثائر بصفائه ووضوحه ومن غير وسطاء يصرحون نيابة عنه بما يعتقده أو يسعى إليه. فإذا ما كان ثمّة أسئلة لا تزال تجول في الخواطر حول النضال الفلسطيني وجدواه، فالشهيد هنا يجيب.

يدور الحوار بين المجتمعين، فيسأل أحدهم عن ردة الفعل المتوقعة بعد تنفيذهم العملية، ويأتي جواب زميله: "يتوقف ذلك على ثباتنا ونجاحنا في إبراز هدفنا الإنساني، فنحن لسنا قتلة ولا قطّاع طرق، نحن مضطهدون لا نملك أرضًا ولا نملك وطنًا. ليس لنا هوية ولا جواز سفر، ليس لنا ما نخاف عليه، وليس لدينا ما نخاف منه. لقد صمتنا كلاجئين أكثر من ثمانية عشر عامًا ونحن نتوسل الرحمة والشفقة والعطف، وكل ما أعطونا إياه إغاثة المستضعفين، وإعانة الشتاء والصيف. أمّا الوطن والأرض، فهي لعدونا يمرح ويسرح.. إلى أن حملنا البندقية". لكنّ المناضل الخبير العارف بتصنيفه على قائمة الخذلان العربي والعالمي فيردف قائلًا: "سيقولون إرهابيون، فاشيون، قتلة، مجرمون، إلى غير هذه الصفات التي لا يستحقها غيرهم".

أمّا السؤال عن جدوى الفعل النضالي، فتجيب عنه الوصية: "لن يستجيب الاحتلال"، وهذا هو الجواب كان ولم يزل، ولكن "سنجبره هذه المرة على أن يعرف أنّنا جادّون، وأنّنا سننفذ خطتنا كاملة، وأنّ أكبر ضمان لنجاح خطتنا أنّنا بعنا حياتنا منذ اللحظة [التي] دخلنا بها صفوف الثورة، ومن باع حياته من أجل هدفه لا بد أن ينجح، ولا بد أن ينتصر".

وبعد عدد من الصفحات يقرّر الجمع تدوين ما تبقى من الوصية على هيئة نقاط شملت أفكارًا حول طبيعة العمل الثوري الذي لا يُقصد منه تعكير السلام في العالم، وإنّما لفت الأنظار إلى مأساة الشعب الفلسطيني وبشاعة الاحتلال، وسعيه لفضح العلاقات الإمبريالية الصهيونية علنًا، وتحذير المناضلين من التخلي عن السلاح مهما كان حجم التآمر على القضية الفلسطينية "فالعالم لا يحترم إلّا الأقوياء" والقوة لا تكون إلّا "حين يوضع الموت موضع الحياة".

تنتهي الوصية، كما هي العادة، بتحية الثورة والأمة العربية وأحرار العالم، لكن ما يبقى عالقًا منها في ذهنك بعد أن تنتهي من القراءة قولٌ يجدّد الهمّ في كل مرة وعند كل مفصل تاريخي تمرّ به قضيتنا العربية المركزية "ويا ليت الأمر يتعلّق بعدونا وأنصار عدونا، ولكنّ ضربة من يدّعي العروبة والوطنية، وضربة من يدّعي الحرص على الشعب والقضية هي التي تؤذي وتؤلم".

D88F6515-2641-4B76-9D90-9BDC22B8B5E4
منى عوض الله

محررة ومساعدة باحث لدى مشروع بحث وتوثيق الحركة الوطنية الفلسطينية.