لماذا لا تعترف النساء؟

لماذا لا تعترف النساء؟

03 أكتوبر 2018
+ الخط -
حتى اليوم، لا تزال النساء يطالبن بحقوقهن بأصوات خفيضة خجولة، ولا يزال أكثرهن يُجهدن أنفسهن في البحث عن مناطق رمادية يتحركن ضمن مساحاتها الضيقة، فيضعن أنفسهن في معادلة صعبة يحاولن فيها التوفيق بين التعبير عن رفضهن لما تعيشه المرأة من اضطهاد، وفي الوقت نفسه الإفلات من "تهمة الشعور بالاضطهاد"، فمن المفارقات اللافتة في عصرنا الحديث أنّ المرأة المضطهدة تُعيَّر بكونها كذلك، ويُعاب عليها أن تعلن تعرضها لأي أذى مادي أو معنوي لأسباب جندرية، وإن كان هذا الإعلان يأخذ شكل الرفض والمطالبة برفع الظلم.

ليست النساء على ملة واحدة في التعاطي مع شؤون الواقع، ففي حين أن بعضهن يعلنّ التزامهن جميع ما تحمله مسلّمات هذا الواقع من اعوجاج واختلالات، ويقبلن ما يترتب عليها من ضرر، بل وربما يحاججن غيرهن مدافعات عنه ومطالبات بدوام حاله، هناك نساء يستشعرن هذا الخلل، لكن مع بقائهن عالقات ضمن دائرة السؤال "هل يحق لي هذا؟"، خصوصًا حين يصطدمن مع جملة من الأعراف والتقاليد السائدة، بل ومع نصوص دينية فُسّرت بطريقة تُلزمهن القبول بواقع الحال والتسليم له.


لكنّ أصنافًا أخرى من النساء لهنّ أسباب مغايرة تمنعهن من اتخاذ موقف واضح تجاه حقوقهن المسلوبة وتدفعهن إلى تلك المناطق الرمادية، فكثير منهن يتحفظن على الحديث عمّا يواجهنه يوميًا من اضطهادات، ويغلقن أبوابهن على تجارب يرفضن مناقشة ملابساتها، ولو بشكل مجرد في أي فضاء عام، تجنبًا لأن يوضعن ضمن إطار الضحية الضعيفة مهيضة الجانب مكسورة الجناح، فالاضطهاد في هذه الحالة على وجه الخصوص وصمة عار تحاول الهروب منها. من هنا، تتلبس المرأة حالة من الإنكار ورفض الاعتراف بأنّ شيئًا من الاضطهاد قد طاولها بشكل أو بآخر، فلا بأس لديها من أن تعلن على استحياء مناصرتها للمرأة ودعمها لحقوقها، شرط أن تؤكد أنها إنما تطالب بحقوق النساء الأخريات الضعيفات، أما هي فكل شيء لديها يسير على أفضل ما يرام.

تنمر خفي آخر يُمارَس ضدّ المرأة حين تُمنع، بشكل غير مباشر، من التعبير عن ذاتها وحقيقة شعورها واعتقادها تجاه ما تراه وتسمعه أو تتعرض له، حيث تُواجه باستنكارات قاسية كلما حرّكت شفتيها بحديث قد يُدرج تحت مسمى "النسوية". استنكارات تتمترس خلف الدين ودعاوى حفظ المجتمع ورفض التغريب، ولا تخلو من تعليقات جارحة تتخللها اتهامات وإهانات لا حصر لها، وهو تاريخيًا ليس بالأمر الطارئ الشاذ أو الجديد المختلف، فهو مشابه لحقيقة قصص حرق ساحرات أوروبا في القرون الوسطى، حيث يواجه تمرد المرأة على واقع تبعيتها للرجل بتجريمها وملاحقتها.

في نهايات القرون الوسطى، بين القرنين الثالث عشر والسادس عشر، عُرفت نساء حكيمات خبيرات كُنّ يعالجن المرضى بالطرق التقليدية. وحين درّبت الكنيسة عددًا من الذكور على مهنة الطب، ودفعتهم إلى الميدان من دون تدريب عملي، لم يتمكنوا من منافسة أداء أولئك النساء، فاتهموهن بامتلاك قوى خارقة تساعدهن في العلاج. لهذا السبب، ولخروجهن عن مألوف العبادات السائدة في ذلك الوقت، حيث كنّ متمسكات بطقوس دينية قديمة مرتبطة بعبادة إلهة أنثى، أُلصقت بهن تهمة السحر والشعوذة، فأصابت المجتمع هستيريا ملاحقة "الساحرات"، ونشط الرجال باصطيادهن وتعذيبهن وإحراقهن.

نحن لسنا على ما يرام، لا أنت ولا أنا ولا أي واحدة منا، ولا أتحدث هنا عن حالة تاريخية أو جغرافية بعيدة، فالمرأة التي تُعامل اليوم بنصف أهلية في محاكم بلادنا هي أنت، والمرأة التي تُسلب ولايتها على أبنائها في الدوائر الحكومية هي أنت، والمرأة التي تُمنع من منح الجنسية لأبنائها هي أنت، والمرأة التي لا تتزوج إلا بموافقة ولي أمرها هي أنت، والمرأة التي يُفرض عليها أن تستأذن إذا ما أرادت التعلم أو العمل أو السفر هي أنت، والمرأة التي قد تُقتل بذنب واحد وإن تابت وآبت هي أنت أيضًا.

ثمة فوائد مرجوة من الحديث المستمر عن تهميش المرأة والتحيز ضدها مجتمعيًا وقانونيًا، فهناك تمييز يمارس عليها كل يوم وفي كل مكان، وإعلاء الصوت برفضه هو الخطوة الأولى على طريق التشخيص الذي يتبعه العلاج، ولكن ما دامت النساء لا يعترفن بذلك فإنّ شيئًا من هذه الحال لن يتغير.
D88F6515-2641-4B76-9D90-9BDC22B8B5E4
منى عوض الله

محررة ومساعدة باحث لدى مشروع بحث وتوثيق الحركة الوطنية الفلسطينية.