وجه جديد منتظر للبنان

وجه جديد منتظر للبنان

09 اغسطس 2020
+ الخط -

شهد لبنان ثلاثة انفجارات مفصلية، خلال الخمسين سنة الماضية، شكلت خطوطا فاصلة، وميّزت مراحل تاريخية مختلفة، في حياة هذه الدولة. كان الأول في ضاحية في بيروت تتبع قضاء بعبدا تدعى عين الرمانة، عندما تعرّض باص صغير يقلّ فلسطينيين لإطلاق النار، كان ذلك الانفجار في إبريل/ نيسان 1975 بدايةً لحرب أهلية ضارية لم تخبُ إلا في العام 1990، منتجةً نظام اتفاق الطائف ووصاية سورية. تابعت هذه الدولة حياتها برعاية رجال أمن سوريين، تدخّلوا في كل كبيرة وصغيرة، حتى أصبح اللبناني، مهما علا شأنه، مجرّد هامش لضابط أمن سوري. واستمر الحال على ذلك حتى الانفجار الثاني في فبراير/ شباط 2005، عندما اشتعل طن من مادة تي إن تي في موكب النائب، رئيس الوزراء السابق، رفيق الحريري، قرب فندق سان جورج في بيروت، موديا بحياته وحياة اثني عشر رجلا كانوا معه. أوحت قوة الشحنة المتفجرة بقوة العاصفة السياسية التي حاقت بلبنان، ونتج عنها جلاء القوات السورية، وانحسار هيمنة رجال الأمن، ما أوجد فترةً من التخبط السياسي خلصت إلى تسيّد حزب الله، ومِن خلفه إيران، المشهدَ، فصار لبنان أسير منظمةٍ تحمل أيديولوجيا مقاومةِ إسرائيل، لتمرير سياسات هيمنةٍ مذهبيةٍ واستقطابٍ شديد، ولم يخفف من هيمنة الحزب انخراطه في الحرب السورية بعد عام 2011، وتوزيع جهوده ما بين البلدين، وصولا إلى اللحظة التي حدث فيها الانفجار الثالث في العنبر رقم 12 في مرفأ بيروت.

قبل أن ينقشع غبار الانفجار الجديد، تلفت اللبنانيون حولهم وتلمسوا رؤوسهم، ثم اطمأنوا إلى وجود أحبائهم، وأدركوا فورا على أي تلٍ من الفساد وسوء الإدارة يقف بلدهم، بعد انقضاء 15 سنة على الانفجار السابق، وتراكم ما يكفي من السياسة الضارّة..

كانت الانفجارات الكبيرة تهزّ شوارع العاصمة، والأيدي الغريبة تندسّ بخفة، لتعبث بالحاضر والمستقبل، وتشكل الوزارات واستقالاتها ثم تشكل المجالس النيابية، واللبنانيون يتفرّجون على ما يجري. حاول الشارع اللبناني، في أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، أسوة بالشوارع العربية، أن يطلق صرخة حرية، فخرج اللبنانيون رافعين سقف طموحاتهم إلى عنان السماء، بعبارة تلخص مطالبهم "كلن يعني كلن". حينها وَجد من يمسك بزمام الأمر في لبنان طريقةً إلى تهدئةٍ متدرّجة وصولا إلى مرحلة سكون، من دون أن يتزحزح النظام اللبناني القائم، لكنه فبرك حكومةً وزركشها ببضع وزيرات وبرئيسٍ لها، قادمٍ من مؤسسة تعليمية عريقة.. تُوِج وجود هذه الحكومة بالانفجار المأساوي الذي أتى على نصف العاصمة، وترك نصفها الآخر جريحا، من دون أن تكون قادرة حتى على تشكيل لجنة لإدارة الأزمة، ومن دون أن توحي بالثقة للدول التي أرسلت طائرات للمساعدة الغذائية، أو لإنقاذ المحاصرين تحت الأنقاض، مع سخط محلي يحاصر جميع القائمين على أمر هذا البلد.

فاجأ الانفجار كل اللبنانيين وهم يعيشون يوم عمل اعتياديا، وشاهدنا عروسا يجرف ثوبها الأبيض غبارُ الأمونيا، وعاملات منازل يحتضنَّ أطفال العائلات لحمايتهم من الزجاج المتطاير، ومشاهد رعب داخل المنازل، وشاهدنا جثثا محشورةً تحت أنقاض المباني والسيارات، لكن اللبنانيين عايشوا ذلك كله واختبروه بأنفسهم، وشعروا جميعا وهم في أقاصي الشمال وأعماق الجنوب بارتدادات الانفجار الذي قد يطاول تأثيره الإقليم كله، ومن المنتظر أن يكون رد الفعل بالعمق نفسه وبالتأثير ذاته.. الانفجارات المشار إليها أعلاه قادت إلى تغييرات جوهرية في لبنان، على مستويي السياسة والمجتمع، وليس هذا التفجير استثناءً، وإذا كانت الانعطافات الحادّة التي رافقت السياسة اللبنانية في الانفجارين السابقين قادت إلى وجهةٍ لا يرغب بها اللبنانيون، فمن المتوقع الآن أمر مختلف، والشارع خارج للتو من خيبة أملٍ في ثورته الشعبية، والفرصة متاحةٌ للتصحيح، والذهاب بالسياسة اللبنانية إلى نقطة بداية جديدة سليمة، انطلاقا من عاصمةٍ نظيفةٍ ومرفأ جديد، ليس فيه عنبر يحمل الرقم 12.