وأخيراً وجدت رأسي..!

وأخيراً وجدت رأسي..!

23 ابريل 2015
+ الخط -

عاد ضرار من عمله منهكاً، فرمى نفسه في أحضان عشيقته الغانية، علَّها تنسيه عمل يومٍ مضنٍ وشاق! وضع رأسه في حضنها ثم قال: "آآآآه، لقد وجدت نفسي أخيراً! يا إلهي! للمرة الأولى أكتشف أن لي رأساً وأن له فائدة في الحياة".

المفاجأة أن المرأة التي رمى ضرار نفسه بين أحضانها لم تكن إلا تمثالاً "مانيكان" قام بإلباسه الملابس الداخلية لعاهرة كان قد عاشرها ذات مرة، ولم يمتلك المال الكافي لمعاشرتها أو معاشرة غيرها مرة أخرى، فقام بسرقة ملابسها الداخلية وألبسها التمثال "المانيكان"، حتى يسترجع شعور اللذة والنشوة الذي طاف به تلك الليلة!

الحالة التي يمر بها ضرار يُعَرِّفها علماء النفس بالفتشية الجنسية (Sexual Fetishism)، حيث يتعلق العاشق بمتعلقات وممتلكات عشيقه أكثر من تعلقه بالعشيق نفسه، فتصير ممتلكات هذا العشيق كالوثن الذي يجد فيه كل رغباته التي حُرِمَ منها!

إن مفهوم الفتشية أو التوثن مفهوم واسع في علم النفس، ولا يقتصر فقط على الجنس، بل يشمل تعلق الإنسان بكل شيءٍ مادي بغض النظر عن قيمته المعنوية والشيء الذي من أجله وُضِعَ أو خُلِقَ.

ومن أمثلة الفتشية ما ذكره المفكر، كارل ماركس، عن الفتشية "التوثن" السلعي (Commodity Fetishism)؛ وهو ما أصاب وما زال يصيب المجتمعات الرأسمالية من تعلق بالسلع الاستهلاكية تعلقاً يصل إلى درجة التوثن! فيصير الإنسان يقتني السلعة لا من أجل منفعتها الحقيقية، ولكن من أجل الحصول على المتعة والشهوة التي يشعر بها عند اقتنائه واستهلاكه لها.

فنرى البعض يقتني ساعة أو عطراً أو سيارة فقط، لأنه رأى شخصية مشهورة تمتلكها، فكأنه باقتنائه هذه السلعة صار حاله كحال تلك الشخصية المشهورة، بغض النظر عن مدى حاجته للسلعة من عدمه.

يذكرعبدالوهاب المسيري في تعريفه للفتشية السلعية: "هي استبدال المنفعة التي تقدمها السلعة نفسها، حتى تتحكم في الإنسان بدلاً من تحكمه فيها، وتصبح السلعة ذات قيمة محورية في حياة الإنسان تتجاوز قيمتها الاقتصادية وغرضها الاستعمالي، وبهذا تصبح السلعة كالوثن".

وفي طورٍ آخر من أطوار التعلق بالسلع تندرج حالة نفسية أخرى تُسمى بالتشيؤ (Reification) والتي تكلم عنها عالم النفس المجري، جيورجي لوكاس، وفيها تتطور حالة الهوس باقتناء السلع لكي يصبح الإنسان نفسه سلعة، ويقوم بتقييم نفسه ومن حوله كتقييمه للسلع. وكأن الإنسان تحول فيها إلى مادة لا روح فيها ولا عقل، يستمد قيمته من قيمة السلع التي يقتنيها ويستهلكها.

ومن أمثلة التشيؤ ما ذكره عالم النفس آلن هاو: "أن طالباً جامعياً مجتهداً يعمل كمعيد، يركب في حافلة للنقل العام، فيرى شاباً آخر لم ينل هذا القسط من التعليم يركب سيارة رياضية فارهة. فيبدأ الشاب المجتهد الفقير بمقارنة نفسه بالشاب الغني صاحب السيارة الفارهة، ويرى أن ذلك الشاب أفضل منه".

حيث ينظر الشاب الفقير إلى نفسه، لا شعورياً، أنه حافلة، وينظر إلى الشاب الآخر على أنه سيارة رياضية فارهة. فالمقارنة هنا لا تتم بناءً على عقل الإنسان وفكره وأخلاقه والنفع الذي يقدمه للمجتمع، بل تكون المقارنة مبنية على السلعة التي يقتنيها ويستعملها.

وهنا لا بد من تساؤل: هل تقييمنا لأنفسنا وللآخرين مبني على ما نملكه من متع الحياة أم بناء على ما هو مستقر في جوهرنا من قيم وأفكار نثري بها أنفسنا ومجتمعنا؟ وهل أصبحنا فعلاً نمارس نوعاً من الفتشية أو "التوثن" السلعي، فأصبحنا نقتني السلع لذاتها ولإرضاء شغفنا بتملك كل ما هو جديد ورائج ويحمل "ماركة"/علامة تجارية لكي لا نكون أقل من الآخرين عندما نقارن أنفسنا بهم، أم أننا نقتني السلع بناءً على حاجتنا إليها؟

لكي نعرف الإجابة يكفي لنا أن نرى تهافت الناس عند نقاط بيع أي إصدار جديد من إصدارات الهواتف الذكية، وحرص كل منهم أن يكون أول من يقتنيها، فهل كل الموجودين، فعلاً، بحاجة لاقتناء هاتف ذكي؟!

***

همسة: كل شيءٍ مادي في الحياة من شأنه الزوال والفناء، وكل شيِءٍ معنوي وقيمي فمن شأنه الثبات والبقاء، والفطن من تعلق بالباقي لا بالفاني، يقول الله عز وجل: (المال والبنون زينة الحياة الدنيا والباقيات الصالحات خيرٌ عند ربك ثواباً وخيرٌ أملاً).

المساهمون