هيلين فرانكنثالر: جسر منها وإليها

هيلين فرانكنثالر: جسر منها وإليها

16 يونيو 2020
("صنع الموسيقى"، من المعرض)
+ الخط -


وهي في العشرينيات من عمرها، بدأت هيلين فرانكنثالر تلطّخ قماشاً خاماً وضعته على أرضية مرسمها بالأصباغ التي تمّ تخفيفها باستخدام زيت التربنتين بحيث يمتصّ اللون مباشرة بدلاً من طلائه، ورسمت الجبال والبحار باستخدام تقنية جديدة مهّدت الطريق لحركة جديدة في الفن خلال خمسينيات القرن الماضي.

مثّلت الفنانة الأميركية (1928 - 2011) الجيل الثاني من التجريديّين التعبيريّين الذين تصدّروا المشهد بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، واعتُبرت بأنها "جسر بين جاكسون بولوك وما هو ممكن" في إشارة إلى مواطنها جاكسون بولوك (1912 - 1956) الذي عُرف بتنقيط ورش الألوان على الكانفاس وتأثّر به العديد من رموز التعبيرية التجريدية في الولايات المتحدة والعالم.

حتى الخامس عشر من تشرين الثاني/ نوفمبر المقبل، يواصل متحف "تيت مودرن" في لندن عرض مجموعة من أعمال فرانكنثالر افتراضياً، تنتمي إلى العقود الثلاثة الأولى من تجربتها، وتبرز تنوّع مصادرها وأساليبها في محاكاة المناظر الطبيعية. يُعرض أحد أقدم أعمالها بعنوان "المتفرّجون" (1951) الذي تطلي خلاله الألوان الزيتية والأصباغ على الورق وتثبّتها على لوح المازونيت، ويعكس الأسلوبَ المجزّأ المتأثّر بالتكعيبية الذي تدرّبت عليه في بداياتها في تكوين من أشكال صغيرة متراصّة، وتذهب في "جنة عدن" (1956) إلى التعامل مع مساحات أكبر من القماش مستخدمةً الزيت على نحو يقترب من الألوان المائية، والذي ظلّ حاضراً في تلك المرحلة في خفّة تقترب من مائيات بول سيزان وجون مارين.

في هذا التداخل اللوني الذي عمدت الفنانة إليه، يتبدّى عالمان أحدهما ينتسب إلى الأماكن الواقعية التي عاشت فيها، والثاني هو عالمها الخاص تؤثّثه بفوضاها السريالية من أرقام ورموز وعلامات مبعثرة بتجريد، حيث تمتزج ألوان الحياة اليومية وتفاصيلها مثل الرمل والبن والسوائل مع زرقة السماء وخطوط الجبال والبحر التي لم تختفِ من لوحتها حتى لو اتخذت تكوينات أُخرى.

خلقت فرانكنثالر مجالاً مفتوحاً ممتدّاً وشاسعاً، وباتت لوحاتها الكبيرة تحتوي مساحات سميكة باللون الأسود وسنابل قمح وحقولاً غير متوازنة اللون، موحيةً بما هو أبعد من المادي المرئي والمحسوس، ومركّزةً على الأشكال الكامنة في الطبيعة بمفردات تظهر متشابهة في تصوير مكثّف لحالات عاطفية أو متأثّرة بمواضيع دينية وأسطورية اختزلتها بخطوط ونقط.

أما عملها "أوروبا" (1957) الملوّن بكثافة، فهو مستوحى من عمل رسام عصر النهضة الإيطالي تيتيان (1490 - 1576) ولكن الأصباغ الوردية لديها تتحوّل إلى لحم والبيضاء إلى وحوش مخبّأة وراء الألوان، وكأنها تعبّر عن حكاية وحشية.

في الستينيات، توجّهت تحو استكشاف التناظر والاستفادة من البقع الصلبة على الخلفيات البيضاء ضمن زخرفة هندسية كما في "الوعاء" (1961)، ثم لجأت إلى الأكريليك ليمنح العمل العتمة والحدّة معاً، ولكنها عادت في العقد اللاحق لتتخلّص من بقعها المنقوعة على القماش، مفضّلة طلاء سميكاً من ألوان زاهية معتمدة تدرّجاً لونياً بتجريد أكبر.

خطوط وألوان وأشكال وفراغات تشكّل عُدّة التجريد لدى فرانكنثالر، وهي تتناغم في ما بينها لتكوّن العمل بكليّته، وتبقى الخدعة، اللمسة الخاصة لديها، طوال ستّة عقود وأكثر، بأن الخط هو الخط لكنه اللون أيضاً. كانت ترسم باللون على قماش شاسع ممتدّ من أعماق دواخلها إلى نهاية الأفق، ولم يكن الجسر من بولوك إلى أي أحد، بل جسراً منها وإليها.

المساهمون