هل القضاء على الجوع في العالم ممكن؟

هل القضاء على الجوع في العالم ممكن؟

19 اغسطس 2016

من آثار الجوع في البرازيل (19 نوفمبر/ 2014/ماركو ريزيندي/Getty)

+ الخط -
وفقاً لمنظمة الأغذية والزراعة للأمم المتحدة (الفاو)، كان أكثر من 990 مليون شخص يعانون الجوع في الأعوام الثلاثة الأخيرة؛ ومن المفارقة أن معظمهم مزارعون لا يملكون الأراضي والوسائل الضرورية للاعتناء بها، أو لا يملكون ما يكفي منها.
لا أحد من المعنيين بالموضوع ينكر أسباب المأساة، ومن أبرزها: الظلم في توزيع الثروات واستئثار أقلية من كبار المالكين بالأراضي، وإطلاق العنان للمضاربات وتطوير الوقود النباتي (الإيثانول). فقد لوحظ، في السنوات الثلاث الأخيرة، أن السلطات العامة في دول الشمال زادت من مساعداتها وإعاناتها المالية لإنتاج الوقود النباتي. وبمجرد القيام بذلك، أصبح مربحاً استبدال المحاصيل الغذائية بمحاصيل الأعلاف والبذور الزيتية، أو تحويل جزء من إنتاج الحبوب كالذرة والقمح والشعير... إلخ، إلى إنتاج الوقود النباتي، فمن 2011 إلى 2015، استُبعد أكثر من 700 مليون طن من الحبوب من قطاع المواد الغذائية في بلدان مركزية منتجة للحبوب، كالولايات المتحدة وكندا وأستراليا وغيرها.. وغيرها.
كما ويستخرج الوقود النباتي من زراعات أخرى أيضاً، كقصب السكر والشمندر في البرازيل وكولومبيا، والنخيل وفول الصويا وثمار جوز الهند، في دول شبه القارة الهندية، ودول جنوب شرق آسيا، فضلاً عن نبات اللفت في أوروبا.
من جهة أخرى، وإثر انفجار فقاعة القطاع العقاري في الولايات المتحدة، ومن ثمّ في سائر دول العالم، اختار كبار المستثمرين (صناديق المعاشات التقاعدية والمصارف الاستثمارية وصناديق التحوّط) المضاربة في أسواق الأوراق المالية، حيث يتم التفاوض على العقود المبرمة حول المواد الغذائية.

ازدياد معدلات الجوع
ومن المفارقات الكبرى أنه، وحتى الآن، لا يعود ازدياد معدّلات الجوع في العالم، إلى التغيّر المناخي الذي سيخلّف، دونما شك، في المستقبل القريب، عواقب وخيمة على الإنتاج الزراعي في بعض مناطق العالم، ولاسيما في الاستوائية منها. ويفترض بالإنتاج الزراعي في المناطق المعتدلة أن يكون أقلَّ تأثراً بهذا التغيّر المناخي، ولاسيما أن مختصّين عدّة دعوا إلى اتخاذ إجراءات جذرية لخفض انبعاثات الغازات الدفيئة، فيما أوصى الفريق الحكومي الدولي المعني بتغيّر المناخ (GIEC) بخفض الانبعاثات في الدول الصناعية بنسبة 80%، والدول الأخرى بنسبة 20%.
تجدر الإشارة إلى أن الوقود النباتي، أو الإيثانول، صديق للبيئة بامتياز، إذ يساعد في الحدّ من ظاهرة الاحتباس الحراري، كونه ينتج كمياتٍ أقل من ثاني أوكسيد الكربون؛ كما يقلّص من انبعاث السموم الأخرى، مثل أوكسيد النتروجين.
لكن، وعلى الرغم من ترحيب البيئيين بالوقود الجديد، باعتباره نظيفاً مستداماً، إلّا أن ثمّة من
يؤكد، في المقابل، أن ذلك يجب ألّا يكون على حساب أفواه ملايين الجياع في العالم. يقول المهندس الزراعي الإيطالي، ماريو جنتاري (متقاعد من الفاو): "مهم للغاية أن نضع نُصب أعيننا مسألة البيئة النظيفة، وسلامة الكوكب على المستويات كافة، لكنّ من واجبنا الأول والملحّ جداً إطعام الناس، والتخلّص النهائي والمبرم من مشهد تلك الهياكل العظمية شبه المتحركة التي تئن تحت ضربات الجوع وأدواء سوء التغذية".
وقد نظّر كثيرون في الغرب والشرق في مسألة الجوع والقضاء على غائلته. من أبرزهم، الباحث الفرنسي المختصّ بالعالم الثالث داميان مييه، الذي يستخلص أن القضاء على الجوع ممكن؛ ولتحقيقه لا مفرّ من سلوك طريقين: السياسة المبنية على مبدأ السيادة الغذائية والإصلاح الزراعي الطموح. أما الغاية من الطريقين فمشتركة، تكمن في تقديم الغذاء إلى الأفراد بفضل الجهود التي يبذلها المنتجون المحلّيون، مع الحدّ من الصادرات والواردات.
إذن، يقوم الخروج من المأزق الراهن على ضمان الحق بالسيادة الغذائية؛ فيجد المواطنون أنفسهم في قلب القرارات المتخذة في إطار السياسات الزراعية والغذائية التي تطرحها الحكومات. ولا يمكن تأمين الاكتفاء الغذائي الذاتي، وتجسيد الحق بالغذاء، من دون الاستناد إلى المزارع الأسرية، ووسائل الإنتاج الزراعية البيئية، وتلبية الحاجات المحلية. فما من أحد أفضل من المزارعين، يستطيع تغذية العالم، لأنهم الأكثر كفاءةً لتقدير الموارد الطبيعية.. من أرض ومياه وتنوّع جيني... إلخ؛ والمحافظة عليها بضبط دورات العناصر العضوية بدقة متناهية.
يقتضي بلوغ هذا الهدف أن يتمكّن أكثر من ملياري مزارع من استصلاح الأراضي بشكل كاف، والعمل لحسابهم، بدلاً من إثراء كبار المالكين والتجار وشركات الصناعات الزراعية العابرة للحدود.
ويفترض بهؤلاء المزارعين، أيضاً، أن يستخدموا الوسائل المقدمة عبر المساعدة العامة لزراعة الأرض (من دون استنزافها)، ويتخلّوا عن نموذج إنتاج الصناعة الزراعية "المهيمن"، والذي يدفعهم إلى التبعية الاقتصادية، فينتجوا غذاءً عالي الجودة، ومن دون مزروعات معدّلة جينياً، أو مبيدات حشرية، أو مبيدات عشبية، أو أسمدة كيماوية.
في مثل هذه الحال، سيضطر العالم إلى إجراء إصلاح زراعي شامل، كفيل بتنظيم عملية إعادة توزيع الأراضي، من خلال حظر ملكيات الأراضي الكبرى الخاصة وتوفير الدعم العام لعمل المزارعين.
ويتحمّل صندوق النقد الدولي، ثم البنك الدولي، جزءاً كبيراً من المسؤولية في هذا الصدد.
فبفضل أداة الديون النافذة، استطاعت هاتان المؤسستان أن تفرضا على حكومات الجنوب إلغاء مخازن الحبوب المعدّة لتغذية السوق الداخلية، في حال عدم كفاية العرض وانفجار الأسعار. وقد حثّتاها على إقفال مؤسسات التسليف الزراعي، دافعة بالمزارعين إلى السقوط في شراك مُقرضين من القطاع الخاص (غالباً ما يكونون من كبار التجار) أو مصارف خاصة تلجأ إلى فوائد ربوية.
وهذا الوضع كفيل بتبرير الديون الضخمة التي شهدناها، وما زلنا نشهدها حتى اللحظة، وإن بوتائر أقل: ففي الهند، مثلاً، شكّلت الاستدانة من المصادر الرسمية، السبب لانتحار 150000 مزارع في السنوات العشر الأخيرة، غير أن البنك الدولي سعى، جاهداً، إلى إقناع سلطات الدولة بإلغاء مؤسسات التسليف الزراعي. والأسوأ أن صندوق النقد الدولي والبنك الدولي حملا البلدان الاستوائية، على مدى الأعوام الأربعين الأخيرة، على تقليص إنتاجها من القمح والأرز والذرة، لاستبدال هذه الحبوب بمزروعات قابلة للتصدير.
واستكمالاً للجهود المبذولة لمصلحة كبرى شركات الصناعات الزراعية والدول المصدّرة للحبوب، أجبرت المؤسستان الحكومات على تشريع حدودها لصادرات المواد الغذائية التي تستفيد من إعاناتٍ مكثفةٍ، تغدقها عليها حكومات الشمال متسبّبة بإفلاس عدة منتجين من الحبوب، وتقليص حاد في الإنتاج الغذائي المحلّي.
بوجه عام، أدّى إلغاء الحواجز الجمركية إلى تعرّض أسعار السلع الزراعية العالمية لتقلّبات كبيرة، ولاسيما أنه كان يقترن بتدابير أخرى، تصبّ في المنطق نفسه، وتُفرَض بصعوبةٍ، مثل تقليص مساحة الأراضي المستخدمة لزراعة المحاصيل الغذائية، بغية منح التصدير الأولوية، ووضع حدّ لأنظمة تثبيت الأسعار، والتخلّي عن الاكتفاء الذاتي بالحبوب، وتخفيض الموازنات الاجتماعية، وإلغاء الدعم للمنتجات الأساسية، وفرض منافسةٍ غير مشروعة على المنتجين المحليين مع الشركات العابرة للحدود.
يعمل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي اللذان "نزعت الشرعية" عنهما، بسبب فشل سياستهما، على تنقيح خطابهما الرسمي، حالياً، مع أن الحلول المقترحة لا تزال تندرج في السياق نفسه، فقد زادت الأزمة المالية الشهيرة الحاجة إلى السيولة في بلدان الجنوب، وهي حاجة قد يسدّها عدد متنامٍ منها، بالاستدانة مجدّداً من هاتين المؤسستين اللتين تفرضان الشروط على توفير أموال جديدة، تُستخدم لتنفيذ إصلاحات اقتصادية نيوليبرالية، شأن "تسليع" الوصول إلى الأراضي والموارد المائية، وخصخصة الكائنات الحية، وتنظيم ثورات خضراء جديدة، وإبرام اتفاقية حول الزراعة في منظمة التجارة العالمية في إطار مزيد من التحرير. وكأن حلّ الوضع السيّئ يمرّ حكماً، في المجال الاقتصادي، بوضع أسوأ.
ولا يمكن تغيير المسار من دون التخلّص من إنتاج الوقود النباتي الصناعي، وقطع الإعانات العامة عن الذين ينتجونه، وإعادة إنشاء مخازن عامة لاحتياطات المواد الغذائية في الجنوب، ومؤسسات تسليف عامة للمزارعين، وضبط أسعار المواد الغذائية، والحرص على أن يستفيد المواطنون ذوو الدخل المنخفض من أسعار متدنّية للمواد الغذائية العالية الجودة.
ولا شك في أن السلطات العامة تستطيع توفير أسعار مدعومة لمستهلكي المواد الغذائية، وأسعار بيع مرتفعة لصغار المنتجين الزراعيين في آن معاً، ولاسيما بإعداد قنوات تسويق مباشرة وقصيرة، بين المنتجين والمستهلكين، وضبط هوامش الوسطاء بشكل صارم. ويفترض بالدولة، أيضاً، أن تعمل على تطوير الخدمات العامة في الأوساط الريفية (الصحة والتربية والاتصالات والثقافة و"بنوك البذور") وتمنع المضاربات على المواد الغذائية.

فرصة جديدة لدول العشرين
يستحيل ادّعاء مكافحة الجوع جدّياً، من دون معالجة الأسباب الأساسية التي أفضت إلى الوضع الحالي برمّته. وليس الدين العام إلّا أحدها، علماً أن آثار التصاريح الصادرة في هذا الصدد، والمتكرّرة في السنوات الأخيرة في مختلف القمم التي عقدتها مجموعتا الثماني والعشرين، تبقى عاجزةً عن إخفاء هذه المشكلة القائمة أبداً. الواقع أن الأزمة الشاملة التي تطاول العالم تزيد وضع الدول النامية سوءاً، مانعة إياها عن مواجهة تكلفة الاستدانة، فيما تتحضّر أزماتٌ جديدة. وقد تسبّب الدين بافتقار شعوب دول الجنوب، المزوّدين، في معظم الأحيان، بثروات بشرية وطبيعية طائلة، هذا الدين الذي بات يمثل، في حقيقته، سرقةً منظّمةً من الضروري وضع حدّ لها.
تشكّل آلية الدين العام الجهنمية عائقاً جوهرياً لتلبية الحاجات البشرية الأساسية، شأن الحصول
على التغذية اللائقة، مع أنه يجدر بتلبية هذه الحاجات أن تطغى على أي اعتبار آخر. فعلى الصعيد الأخلاقي، ليست حقوق الدائنين وأصحاب الدخل والمضاربين قيّمة، مقارنة بالحقوق الأساسية التي ينبغي أن يتمتّع بها ستّة مليارات مواطن تقوم آليّة الدين التي لا ترحم بتهميشهم.
ومن غير المنصف، بحسب الباحث الفرنسي داميان دمييه، الطلب من دول افتقرت بسبب أزمة عالمية لا تتحمّل مسؤوليتها بأي حال، أن تكرّس جزءاً كبيراً من مواردها لتسديد ما يتوجب عليها لدائنين ميسورين، بدلاً من تلبية هذه الحاجات الأساسية الخاصة بها. وتعود عدم أخلاقية الدين أيضاً إلى صدوره، في معظم الأحيان، عن أنظمة غير ديمقراطية، لم تستخدم المبالغ التي تلقتها لخدمة مواطنيها، وغالباً ما لجأت إلى عمليات اختلاس واسعة للأموال، بالاتفاق الضمني، أو الفعلي، مع دول الشمال والبنك الدولي وصندوق النقد الدولي. وقد عمد دائنو الدول الصناعية إلى إقراض أنظمة فاسدة، عن سابق إصرار وتصميم، ما يؤكد أنه لا يحقّ لهم بمطالبة الشعوب بتسديد هذه الديون غير الأخلاقية وغير الشرعية.
في المحصّلة، يمثّل الديْن إحدى أبرز الآليات التي يقوم بموجبها شكلٌ جديدٌ من الاستعمار على حساب الشعوب، ويضاف إلى الانتهاكات التاريخية التي تنفذها الدول الثرية، من العبودية وإبادة الشعوب الأصليّة، إلى فرض النير الاستعماري ونهب الموارد الأوليّة والسلع الثقافية والتنوّع البيولوجي ودراية المزارعين (بمنح المنتجات الزراعية في الجنوب مثل الأرز البسمتي الهندي براءاتٍ تصب في مصلحة شركات الصناعات الزراعية العابرة للحدود الواقعة في الشمال) مروراً بهجرة الأدمغة وغيرها من الإجراءات. لذا، آن الأوان لاستبدال منطق الهيمنة بمنطق إعادة توزيع الثروات حرصاً على العدالة.
"مجموعة الثماني" و"صندوق النقد الدولي" و"البنك الدولي" و"نادي باريس"، تفرض جميعها صورة خاصة عن الحقيقة والعدالة، تؤدّي فيها دور القاضي والخصم في آن معاً.
ولمواجهة الأزمة، تسلّمت مجموعة العشرين "شعلة الريادة" من جديد، وأخذت تعمل، بهذه الكيفية أو تلك، على إعادة صندوق نقد دولي فاقد الصُدقيّة والشرعية، إلى اللعبة السياسية والاقتصادية المتوازنة.
فهل تنجح في إنقاذ نفسها والعالم من غليان جوع كافر، لا يعرف غضب جموعه سدوداً ولا حدوداً في حال انفجاره؟. وكم كان الفيلسوف الروماني، أنايوس لوكيوس سينيكا، محقاً حين نطق، منذ قرون طويلة، محذراً: لا يستطيع الشعب الجائع أن يستمع إلى عقلٍ أو يكترث لعدلٍ أو يتعلّق بمبادئ.
A2AFC18A-C47E-45F2-A2B6-46AD641EA497
أحمد فرحات

كاتب وشاعر لبناني، عمل في عدد من الصحف اليومية اللبنانية والعربية، وفي مجلات ودوريات فكرية عربية.