هاني الهندي... الصامت والغامض والمناضل والشريف

هاني الهندي... الصامت والغامض والمناضل والشريف

25 ديسمبر 2016

هاني الهندي.. دور تأسيسي لحركة القوميين العرب

+ الخط -
هوى، في صقيع عمّان، من كان يُشعل في عواصم المشرق العربي نيراناً للوحدة القومية وللتحرّر الوطني. مات هاني الهندي، فكأن سماء العرب في حاجةٍ بعد إلى الكآبة. وها هو هاني الهندي يرحل اليوم، بعدما ودّع معظم رفاقه، أمثال جورج حبش ووديع حداد وجودت ضاحي، وبعدما لفظ الفكر القومي العربي الرومانسي آخر أنفاسه وتجلياته الكبرى، كما تمثّل في جمال عبد الناصر ثم ميشال عفلق. وهاني الهندي سليل عائلة تزدري الحدود بين سورية والعراق، أو بين سورية وفلسطين والأردن، فوالده المقدّم محمود الهندي السوري كان ضابطاً في الجيش العراقي الذي أسسه الملك فيصل الأول، وعضواً سرياً في "الحركة القومية العربية" (جماعة الكتاب الأحمر) التي أسّسها قسطنطين زريق، وترأسها في العراق يونس السبعاوي، وكان قاتل دفاعاً عن بغداد في حركة رشيد عالي الكيلاني في 1941. وعندما سرّحه البريطانيون من الجيش العراقي عاد إلى سورية، ليتطوع في جيش الإنقاذ بقيادة فوزي القاوقجي، ويشارك في حرب فلسطين سنة 1948.

أما هاني الهندي (أبو محمود) فكان من الرعيل القومي العربي الذي تصدّى لتغيير الواقع العربي بالعنف الثوري، وأطلق مع رفاقه آمالاً كثيرة، ليصطدم الجميع بصلابة الواقع وهشاشة الأمة ومجتمعاتها المتعددة. وفي هذا الميدان، لا بد من الإفصاح عما لم يكن مكشوفاً من قبل، وهو أن هاني الهندي، ومعه ناجي الضلّي (من سورية)، هما من كان لهما التأثير الكبير في جورج حبش وفي خياراته السياسية، وهو الذي عرّفه إلى "كتائب الفداء العربي" في دمشق، وركنها المؤسس جهاد ضاحي، وهو الذي أصبح، بالتدريج، حلقة الوصل بين "كتائب الفداء العربي" في سورية و"الحلقة الثقافية" في بيروت التي تكوكبت بعد سنة 1948 حول قسطنطين زريق في الجامعة الأميركية في بيروت، وبين"المجموعة المصرية" ذات الصلة بحزب "مصر الفتاة"، واللاجئة إلى سورية، بعد اغتيالها أمين عثمان وزير المالية في حكومة مصطفى النحاس في 1945. ومن هذه المجموعات الثلاث، تألفت "كتائب الفداء العربي" التي لم تعش إلا أكثر قليلاً من سنة واحدة.
اطّلع هاني الهندي على تجربة منظمة "القمصان الخضراء" التي تزعمها أحمد حسين من 
حزب "مصر الفتاة" (قبل أن يتحوّل اسمها إلى "الحزب الوطني الاسلامي")، وهي منظمة فاشية، انتهجت نهج تحطيم الحانات في القاهرة والإسكندرية، وكان من أعضائها الفيلسوف عبد الرحمن بدوي، وتأثر أبو محمود بأفكارها في البداية، ونقل هذا التأثر إلى منظمة "الشباب القومي العربي" في بيروت التي صارت لاحقاً "حركة القوميين العرب". ومع أنه أتقن فنون التخفي، إلا أن جهاز المخابرات الإسرائيلية (الموساد) تمكّن منه في 3 /1 /1981 في مدينة ليماسول القبرصية، وفجّر سيارته، غير أنه نجا بأعجوبة بعدما بُترت ذراعه اليسرى.
.. ولد هاني الهندي في بغداد سنة 1927، ودرس في الكلية الوطنية في الشويفات في لبنان، ثم تابع دروسه في الكلية الأميركية في حلب. لكن تلك الكلية فصلته في 1945 جرّاء التظاهرات ضد الفرنسيين. وانتقل في 1947 إلى الجامعة الأميركية في بيروت. وهناك انضم إلى حلقة قسطنطين زريق (جمعية العروة الوثقى)، وتعرّف إلى جورج حبش وأحمد الخطيب ووديع حداد وحامد الجبوري وصالح شبل وآخرين، وهؤلاء سيصبحون لاحقاً مؤسسي حركة القوميين العرب. وفي سياق نضاله القومي، كان له شأن في حركة 28 /3/ 1962 التي قادها، يا للعجب، العقيد عبد الكريم النحلاوي (قائد انقلاب الانقضاض على الوحدة المصرية – السورية) ضد حكومة الانفصال، لكن الحركة فشلت. وبعد حركة 8/ 3/ 1963 التي حملت حزب البعث والناصريين إلى السلطة في سورية، عُين وزيراً في أول حكومة بعد الانفصال، لكنه لم يلبث جرّاء صراع "البعث" والناصرية أن أصبح خارج السلطة.
لم يُكشف النقاب بعد عن التاريخ السري لنضال هاني الهندي، وهو نضال متشعب الوجوه؛ فقد كان أحد أربعة شكّلوا النواة الأولى هم: هاني الهندي (سورية) وجورج حبش ووديع حداد (فلسطين) وأحمد الخطيب (الكويت). ولما فشلت عملية اغتيال أديب الشيشكلي في دمشق في 11/ 10/ 1950 التي نفذتها المجموعة المصرية في كتائب الفداء العربي، اعتقل نحو ثمانية أشهر ثم أطلق، فجاء فوراً إلى بيروت، وقطع علاقته نهائياً بكتائب الفداء العربي (تنصّل جورج حبش من أي علاقة له بالكتائب)، وانخرط بجهد واعٍ لتأطير مجموعة من الشبان القوميين. وفي صيف 1951، اجتمع في مقهى محيو في بيروت ثمانية طلاب، هم هاني الهندي وجورج حبش وأحمد الخطيب ووديع حداد وصالح شبل (فلسطين) وحامد الجبوري (العراق) وثابت الهايني (سورية)، وأقرّوا تأسيس منظمةٍ دُعيت "الشباب القومي العربي". وفي سياق نضاله القومي، تولى تحرير مجلة الرأي في دمشق، الناطقة بلسان حركة القوميين 
العرب منذ سنة 1958. وفي ما بعد، شارك في تأسيس الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، وأدى أدواراً خطيرة إلى جانب وديع حداد لم يُكشف اللثام عنها تماماً. ومع أنه رجل سياسي، أولاً وأخيراً، إلا أن اهتمامه بالثقافة كان مميزاً، فأسّس في بيروت "مؤسسة الأبحاث العربية" التي أصدرت كتباً مهمة أثارت جدلاً كبيراً، مثل كتاب كمال الصليبي "التوراة جاءت من جزيرة العرب"، وكذلك سلسلة "حركة القوميين العرب: نشأتها وتطورها عبر وثائقها" (هاني الهندي وعبد الإله النصراوي). فضلاً عن سلسلة آداب الشعوب التي تولى إصدارها الروائي إلياس خوري. ولهاني الهندي كتاب مهم عنوانه "جيش الإنقاذ".
... طوى هاني الهندي نحو تسعين سنة من أيامه، من دون أن ينشر على الناس تجربته السياسية المهمة. وقد حاولتُ مراراً أن استدرجه إلى حوار طويل ومسهب، يروي فيه تلك التجربة الثرية، وساعدني في ذلك الصديق، أحمد خليفة، إلا أن أبو محمود كان يمتنع بأدب وتهذيب كبيرين. وقد علمت، نقلاً عن أصدقاء، أمثال عبد الله حمودة، أن هاني الهندي كتب مذكّراته وأودعها لدى من يثق به. فلعل هذا الخبر البهيج يكون صحيحاً حقاً، فنعيش معه مجدّداً في ثنايا الكلمات المسطورة، ما يعوّض جانباً من غيابه المؤلم.