نجيب محفوظ .. كحمامة رائقة في شباك قديم

نجيب محفوظ .. كحمامة رائقة في شباك قديم

10 سبتمبر 2020
+ الخط -

لخّص نجيب محفوظ لقلبه كل جغرافيا مصر، وهو رائق كحمامةٍ خلف شباك قديمٍ لأثر كان مسجداً صغيراً، أو زاوية لفقيهٍ جاء من الحجاز على جمله حافياً، أو متصوّفاً مقطوع الصلة بالأهل والأحباب، جاء من المغرب ليلا، بعدما نسي الألفية واللزوميات، وأدمن قراءة النجوم ووجوه الناس في حارة سدٍّ تنتهي بسبيل ماء، أو كان الشباك لأثر، كان حتى لصوفي تائه، يحبه الناس من غير سبب، وتقترب منه الطيور، والمساكين لنيل البركة، أو حتى شباك زاوية لفقيه استكثر جمال صوته على الإنشاد والمديح، فاعتكف بالزاوية، ابتعاداً عن نداء الدنيا وغزلها، إلا في حدود خاصة الخاصة، ومع وافر الشك أيضا، ووافر الإخلاص الأبدي لذلك الشبّاك. وأدمن النظر إلى الناس ومشاغلهم من القرافة، مروراً ببابي النصر، والفتوح، وصولاً إلى الحسين، وجامع الأزهر، وأسواق البخور، والعطور، وحبال المراكب، والسلاسل والحلقان والغوايش، مع شخللة الفضة في الخلاخيل وروائح المسك في صدور العابرات، وفي كل نظرة سكّين من عين مليحة من وراء خباء.

ظل نجيب كحمامةٍ لا تفارق الشبّاك، والنظر حواليه ممسكا بتلك المساحة الصغيرة جدا من العالم ما بين أنيابه وتحت جناحيه، مساحة يعبرها طفلٌ على دراجته، أو حماره كي يشتري لأمه الدهن من جوار باب الفتوح، ويعود أدراجه إلى حوش قدم أو العطوف أو الحسينية، وقد يتأمل واجهة مبنى مصلحة دمغ الموازين، أو لوكاندة باب الفتوح، حينما يعلو نحيب المنشدين بحوار حائطها.

مساحة هينة على رجلٍ اكتفى بالوظيفة، وبعض متع الصحبة في حدود ضيقة جدا وريبة، وبعد نظر وتأدب فطري من خلال تربية لبيت كثير الأولاد، ولم يصل أبداً إلى حالة العوز أو شراهة الطلب.

ظل الشبّاك سخيا على نجيب، وظل نجيب هادئا ووديعا كتلك الحمامة. هل كان صاحب الزاوية حينما جاء إلى القاهرة يبكي متعا تركها وراء ظهره هناك، سواء في الحجاز أو المغرب؟ وهل ملّ نجيب محفوظ ذلك الشبّاك يوماً، وجلسة تلك الحمامة الرائقة في ظلها وراء الخشب، وخيط ماء رقيق ينقط أسفل شجيرة ياسمين، وورّاقٌ يأتيه كل آنٍ حاملاً إليه الكتب القديمة، وبعض الأحبار وسير المدن البعيدة، سواء أكانت في المعادي، أو الإسكندرية، أو العوامات النيلية في الليل، حاملة الطرب والمتع فوق الماء، مع الممثلين والغواني وصوت منيرة أو بقاياهم، وخصوصا بعدما "تهندمت" القاهرة وازداد سكانها عدداً، وتركت النبابيت وعراك الحمّالين في البوظة من القرافة حتى باب الفتوح.

حافظ نجيب على هذا الشبّاك هادئا من دون أن يزعج الحمامة، ومن دون أن يغير خشب الشباك، ومن دون أن يغيّر حتى الترزي الخاص به، ولا حتى موضة البدلة، ومن دون أن يتعب الورّاق العجوز، ومن دون أن يصير من المتكلفين في شيء.

يترك الشباك خلسة، ويترك الحمامة، ويترك بجوارها الحبوب، ويوصي الظل عليها ماشيا إلى المقهى، أو إلى مكان الوظيفة، أو لكتابة سيناريو أو لمكتبه في "الأهرام"، كي يضحك كرجل بسيط يرعى بيتا في الخفاء، من دون أن يعلم أحد بذلك، إلا بمحض المصادفة، ثم يعود في آخر المشاوير إلى شبّاكه، وإلى تلك الحمامة، من دون أي بحث عن طموح آخر، أو أي سؤالٍ عن مشكلات الأهل، وكأنه خلق لذلك الشبّاك، كخادم أثر جاء من بلدٍ بعيد، واكتفى بالنوم فيه، ولم يزعج الحمامة، والحمامة لم تزعجه، حتى شجرة الياسمين كانت تخضرّ به، وتخضر بدونه.

لم ينشغل بزحام المواضيع، ولا بمشكلات الموضة، ولا بأسعار العقارات. طلب منه مرّة بعد الستين أن يتولّى أمر مؤسسة روزاليوسف. قال لهم الرفض أدباً: "هذه من روح الشباب وعرقهم وفرحهم وهم أحقّ بها مني". وظل بعيداً يكتب في شباكه على مقربةٍ من وداعة الحمامة، وقريباً من دكان الورّاق، حتى بعدما كفّ بصر الورّاق، وقريباً من صانع المفاتيح كفيف البصر أصلاً. وفي الوقت نفسه، يسأل كل آنٍ عن حال "صانع العاهات"، وتأخذه الأفراح إلى "بواقي" أنس العوّامات، فيكتب "ثرثرة فوق النيل". ويطرده ضجر القاهرة وزحامها وحرّها إلى الإسكندرية صيفاً، فيكتب "ميرامار". ثم يعود سريعاً إلى الشباك بجوار تلك الحمامة الرائقة بجوار المنشدين. وماء قليل يـأتي إلى ياسمينةٍ تخضرّ بسبب ومن غير سبب، حتى وصل إلى المائة، إلا قليلا، فله هزّة فرح الحمام في ذلك الشباك القديم، وله رائحة الياسمين من تلك الشجرة التي تركها.