ميلاد خوّام... رحلة من الصمت إلى الشمال

ميلاد خوّام... رحلة من الصمت إلى الشمال

14 يونيو 2020
بالنسبة للأوروبيين سأبقى موسيقياً شرقياً عربياً (فيسبوك)
+ الخط -
صدر، أخيراً، للمؤلف الموسيقي وعازف الترومبيت السوري، ميلاد خوام، ألبومه الأول، الذي حمل عنوان "إلى الغرب". عمل تم تمويله بمنحة من مؤسسة "اتجاهات ثقافة مستقلة"، وتشارك خوام بتسجيل الألبوم مع خمسة موسيقيين يعيشون في محل إقامته، مدينة برلين، وهم من أصول سورية وفلسطينية وألمانية.

وفي لقاء خاص أجراه "العربي الجديد"، تحدث خوام عن رحلته مع صناعة ألبومه الأول. يقول: "فكرة الألبوم ولدت خلال رحلة النزوح التي قطعتها، كغيري من السوريين، بطريقة "غير شرعية" من الشرق نحو الغرب. ففي الأيام التي أمضيتها برحلتي نحو ألمانيا، مررت بالعديد من البلاد، كنت أشعر فيها بحالات نفسية غريبة جديدة؛ مزيج من بؤس الواقع والأمل والفرح الذي كان ينتابني عندما كنت أشعر بأنني أتخلص من كابوس، رغم إدراكي بأنني متجه نحو كابوس جديد، وإن كان فيه بصيص أمل أكبر. خلال هذه الرحلة كنت صامتاً، أشعر بعجزي عن التعبير والكلام، أفكر في الوصول إلى ألمانيا لتحقيق أحلامي، إذ كنت أتمنى أن أتابع عملي في الموسيقى؛ لذا كنت أفكر كثيراً في الموسيقى، وأدندنها بيني وبين نفسي".

يتابع خوام: "ألفت أول قطعة موسيقية في الألبوم عندما وصلت إلى صربيا، تذكرت عندما كنت أستمع إلى موسيقى غوران بير غوفيتش، وكل الموسيقى البلقانية التي تعزف على آلتي، الترومبيت، والتي كنت أستمع إليها في دمشق وأحبها، وللحظة لم أصدق الواقع، شعرت بأنني أعيش في حلم، لكنني مصدوم بالواقع، فأنا في بلد الترومبيت ليس بصفتي موسيقياً، بل بصفتي لاجئاً. وفي صربيا، كنت أشعر بالإرهاق الممزوج بالغبطة، لأنني شعرت بأني وصلت لخط الأمان. هذه الظروف المكانية والزمانية والنفسية هي ما كنت أعيشه عندما ألفت المقطوعة الأولى في الألبوم، والتي حملت اسم "إلى الغرب"؛ كان ذلك تحديداً في لحظات الاسترخاء التي نعمت بها، بعد أن تمكنت من عقد اتفاق مع سائق تاكسي وافق على أن يقلني إلى الحدود الصربية الغربية، وجلست سعيداً على كرسي السيارة أشاهد صربيا من خلف النافذة وأشعر بالسعادة لوصولي إلى الغرب، أو إلى الحلم".

يضيف خوام: "عندما وصلت إلى برلين، كنت أحاول أن أتخلص من الحالات الدرامية والسلبية التي سيطرت أثناء الرحلة، وحاولت أن أنظر إلى كل الأحداث التي مرت معي في الرحلة بمنظار ساخر، ونفذت المقطوعة الأولى، التي سيطرت علي فيها الروح البلقانية ورتمها السريع الحيوي".

مقطوعة "إلى الغرب"، تبدو مقطوعة حيوية تمتزج فيها موسيقى بلقانية وكلاسيكية بفواصل شرقية على آلة القانون، وتنتهي بثلثها الأخير بصرخات مبهجة، تكثف حالة شعورية معقدة يمكن التماسها بالمقطوعة منذ بدايتها.

عنها يقول خوام: "حاولت بهذه القطعة أن أعبر عن رحلة اللجوء بما فيها من حوادث مؤلمة برتم سريع يحول تلك اللحظات إلى إيقاع مبهج، يشعرك بأنك تركض بغابات أوروبا الشرقية. أما الفواصل التي يهبط فيها إيقاع الموسيقى والتي نفذت على آلة القانون الشرقية، فهي تمثل الأفكار التي كانت تسيطر علي فجأة وتعيدني إلى مقاهي مدينتي الأصلية والخواطر التي كانت تنتابني فيها. وتنتهي بموسيقى وصرخات مستوحاة من الدبكة وحالات الفرح الشعبية التي كنا نعيشها في المقاهي وصالات الأفراح السورية؛ وهي تمثل الفرحة التي سيطرت علي أنا والركاب الذين لا أعرفهم ورافقوني بسيارة الأجرة، باللحظة التي تجاوزنا بها حدود صربيا ووصلنا إلى أوروبا الغربية".

وتحمل المقطوعة الثانية في الألبوم اسم "براري"، وعنها يقول خوام: "أثناء رحلتي سرت بالبراري الأوروبية، وفيها كانت ذاكرتي ترجعني إلى المخيمات التي كنا نقيمها في سورية عندما كنت صغيراً، ربما بسبب رائحة القطران التي كنت أشمها في براري كرواتيا على وجه الخصوص، وهي ذات الرائحة التي كنت أشمها في البراري السورية التي كنا نخيم فيها. كانت براري أوروبا الشرقية جميلة، ولكن لا يمكن التعاطي معها بذات الطريقة، فأنا مرغم على السير فيها للوصول إلى مكان جديد على أمل حياة أفضل، ولست موجوداً هناك لشواء اللحم والتسلية في تخييم مع الأصدقاء. هنا، حاولت أن أنقل هذا الشعور بقطعة موسيقية، مصحوباً بذاكرتي ومشاعري اتجاه المساحات البرية في سورية، التي أعلم جيداً أنني لن أتمكن يوماً من العودة إليها والاستمتاع فيها كما كنت أفعل دائماً".

المقطوعة الثالثة في الألبوم تحمل اسم "دانس أون بيات"، وعنها يقول خوام: "هي أول قطعة قمت بتأليفها، عملت عليها عندما كنت في سورية بداية. وقمت بتطويرها بعد أن عشت سنة في ألمانيا، وبعد أن باتت الموسيقى الراقصة المحيطة بي كلها تنتمي لأنماط موسيقية كالتكنو والإلكترونيك. عندها شعرت بأنني أريد أن أبتكر رقصتي الخاصة على مقام البيات".

وفي ما يخص المقطوعات الثلاث الأخيرة، يقول خوام: "المقطوعة الرابعة التي تحمل اسم "سولي" هي مقطوعة عن الشمس. وأما المقطوعة الخامسة "إلوسيون" فهي عن حالة وهم، تبدأ بالتجمعات الغريبة في البارات وتنتهي بحالة من الوحدة. وأما المقطوعة الأخيرة "أكوامانيل" فهي مقطوعة قمت بتأليفها العام الماضي لمتحف الفن الإسلامي في برلين، الذي طلب مني تأليف مقطوعة عن أحد العناصر الثقافية في العصر العباسي، وهو "الأكوامانيل"، أي غسل الأيدي؛ وهو يعرض بالمتحف حالياً".

تجدر بنا الإشارة إلى أن ميلاد خوام كان قد درس الموسيقى الكلاسيكية في المعهد العالي للموسيقى في دمشق، وأن ألبومه الأول تم إنتاجه بمنحة من "اتجاهات ثقافة مستقلة" التي تقدم منح فنية لإنتاج مشاريع فنية سورية مستقلة. وعند السؤال عن السبب الذي دفع خوام للبحث عن تمويلات من مؤسسات سورية لإنتاج مشروعه الخاص بدلاً من الاتجاه نحو الأساليب الرائجة التي يتبعها الموسيقيون السوريون في أوروبا.

قال خوام: "مسألة الاستمرار بالعمل الموسيقي هنا في ألمانيا هي أمر بالغ الحساسية والصعوبة، فلا يمكنك العمل على مشروعك الموسيقي الخاص بك وبالطريقة التي تريدها، لأنك دائماً ما ستصطدم بمن سيحاول تشويه مشروعك وتحريف مساره لأسباب سياسية أو مادية. فمنذ أن وصلت إلى ألمانيا، فتحت لي الكثير من الأبواب والفرص للعمل ضمن مشاريع مؤطرة بوصم اللاجئين؛ وهو أمر يتعلق بالسياسة والميديا لم أرغب أن أكون جزءاً منه منذ البداية".

يتابع: "ورغم ذلك، تعرضت للعديد من المواقف ذات صلة، إذ تمت دعوتي للعديد من الحفلات ولبيتها، لكنها انتهت بخيبة، عندما كنت أكتشف أنه تمت دعوتي بسبب هويتي كشخص سوري وليس كموسيقي؛ وأن العرض الذي أشارك فيه هو ليس عرضاً فنياً، وإنما فعالية تعرض للاجئين وتركز على هويتهم بدلاً من الفن الذي نقدمه".

ويضيف خوام: "بعد أن اكتشفت المسار الذي تم تحديدنا فيه بألمانيا، كان لدي خياران: أن أسير مع التيار وأقبل بأن أكون سلعة استهلاكية تعرض لكسب التعاطف والشفقة، تحت مسمى لاجئ يعزف الموسيقى، لتكون هويتي هي موضوع العرض بدلاً من الموسيقى التي أقدمها. وأما الخيار الثاني فكان العمل على إنتاج مشروعي الخاص، وأن أبحث عن تمويلات لهذا المشروع. وهو الخيار الذي اتجهت نحوه".

وعن وضع الموسيقى السورية في ألمانيا، يقول خوام: "في ألمانيا، لا يعرفون الموسيقى السورية، ومن الممكن أن يتعاقدوا مع أي شخص يلعب على الدربكة لتقديمه كموسيقي سوري؛ ولن يهتموا كثيراً بإجادته للعب، فالمهم هو هويته الباعثة على الشفقة. لذلك انحدر مستوى الموسيقى الشرقية والسورية التي تقدم في ألمانيا، لأن الموسيقيين الحقيقيين يجلسون في بيوتهم مكتئبين، في حين يتم تقديم حفلات موسيقية شرقية وسورية كثيرة، تعتمد بالدرجة الأولى على هواة لم يجهدوا أنفسهم لاحتراف الموسيقى. وفي الغالب، يقدمون في هذه الحفلات أغاني طربية بطريقة مشوهة، ويكررون تقديم الأغاني ذاتها بكل حفلة، مثل أغنية البنت الشلبية".

يضيف خوام: "وقبل أن أتقدم بطلب منحة لـ"اتجاهات"، حاولت أن أحصل على تمويل من مؤسسات ألمانيا، لكن طلبي كان دائماً يقابل بالرفض، لأنني لا أقبل بلعب الدور المطلوب من "اللاجئ الموسيقي". وما دفعني للابتعاد عن التمويلات الألمانية هو بعض الحوادث التي تعرضت لها مع مؤسساتهم؛ ففي سنة 2016 تم اختياري لتقديم عرض في أميركا، وقبل السفر فوجئت بأنهم قد قاموا بتغيير اسم المشروع والعرض الذي أقدمه، وسموه "فرقة اللاجئين" من دون الرجوع لي، فرفضت المشاركة. لذا بدأت بالبحث عن تمويلات عربية، لأتمكن من شق طريقي الخاص بي بعيداً عما هو سائد هنا، وتقدمت بطلب منحة لـ"اتجاهات" وحصلت عليها".

وعند السؤال حول تقبل الجمهور الأوروبي لهوية خوام الموسيقية، كشخص درس الموسيقى الكلاسيكية ويعزف على آلة غربية بدلاً من عزفه على آلة شرقية تنتمي للثقافة القادم منها يقول خوام: "بالنسبة للأوروبيين، أنا سأبقى موسيقياً شرقياً عربياً، ومهما كنت موهوباً، لن أتمكن من عزف الموسيقى الكلاسيكية كما يعزفونها هم. وإلى اليوم، لا تزال الموسيقى الكلاسيكية تستهويني، ولكنني درست أيضاً الموسيقى الشرقية في المعهد العالي للموسيقى في دمشق، وأعرف كيف أخرج النوتات الشرقية من الترومبيت، وقد عملت على تطوير ذلك بالفترة الماضية".

يختم خوام حديثه بالعودة إلى ثيمة الألبوم، فيقول: "تو ذا ويست هو اسم اخترته بتأثير رحلة اللجوء التي عشتها، وقد اخترته قبل أعوام، وتداخلت بالألبوم العديد من الخطوط، ولكني لم أرغب بتغيير الاسم. والمقصود بـ"الحركة للغرب" ليس فقط رحلتي الخاصة، وإنما أقصد به الحركة الكبيرة التي حدثت في الأعوام الأخيرة، والتي انتقل فيها الناس باتجاه الغرب".

المساهمون