من ذاكرة المعتقلات: سجن أنصار

من ذاكرة المعتقلات: سجن أنصار

18 مايو 2018
+ الخط -
قال: "جمعونا في ساحة الراهبات. أخذوا يضربوننا منذ اللحظة الأولى، وتعرّضنا للإذلال والجوع والعطش. مات على الأقل سبعة معتقلين، فدُفنوا في المقبرة الإسلامية في صيدا". وقال: "كنّا نسمي سيارة المحققين البيضاء سيارة الدفن، لأنّ الذين يعودون بالسيارة بعد التحقيق كانوا يحملون علامات زرقاء من أثر الضرب في وجوههم وسائر أعضاء جسمهم". 

هذه الرواية ينقلها العقيد السابق في قوات الاحتياط في جيش الاحتلال، دوف يرميا، في كتابه فظائع الحرب اللبنانية، وقد حدّثه بها أسير محرر يقول إنّه التقاه في مخيم عين الحلوة في الجنوب اللبناني عام 1982. وهي تلتقي مع روايات غيره من الأسرى الفلسطينيين والعرب في المعتقلات الإسرائيلية، المحررين منهم أو الصامدين؛ فالضرب والتقييد و"الشبح" والحرمان من الطعام والشراب والنوم أو حتى قضاء الحاجة ومنع العلاج والإهانة والتهديد بالقتل، كلها عذابات بات ذكرها مألوفًا في سياق الحديث عن يوميات الأسرى في معتقلاتهم. لكن، ومع هذا كله، تبقى لكل واحد منهم قصته التي يرويها فيضيف من خلالها مشهدًا مختلفًا إلى فصل المعاناة.

في مدرسة الراهبات في صيدا؛ أحد معابر الأسرى إلى أنصار، يروي معتقل آخر فيقول: "عندما اعتُقلت أُخذت فورًا إلى مدرسة الراهبات في صيدا. كنّا نحو ألف شخص مكتّفي الأيدي ومعصوبي الأعين، ورؤوسنا داخل أكياس من الخام، جالسين على أرض ملعب المدرسة المعبد بالزفت الذي أحالته حرارة الشمس المنعكسة عليه إلى مرجل يحرق أجسامنا". ويضيف إلى جانب ذكره صنوف العذاب التي تعرّض لها الأسرى في المعتقل، بأنّ المعتقلين كانوا يُحقنون بإبر المورفين لحملهم على تلقّي عذابات أكبر، قبل نقلهم إلى "أنصار".

لم يكن معتقل أنصار معتقلًا عاديًا بمبانٍ وأسوار، كان مكوّنًا من عشرين معسكرًا، كل واحد منها تبلغ مساحته ألفاً وخمسمائة متر مربع، ويضم ثلاث عشرة خيمة، بحسب ما ذكره لامع الحرّ في كتابه مهاجر إلى أنصار، أو ثلاثة دونمات ويضم الواحد منها 20 خيمة، كما يذكر محمد صفا في كتابه 100 يوم في معتقل أنصار. وكانت تلك المعسكرات العشرون محوطة بأسلاك شائكة تفصل بينها طرق ترابية تسير عليها الدبابات والمجنزرات، وترصدها أبراج مراقبة ترتفع عنه أمتاراً عدة.

في القصة التي يرويها يرميا ينقلنا الأسير المحرر الذي لم يُذكر اسمه أمام مشهد يحدث، كما يقول، داخل كل معسكر من المعسكرات. في هذا المشهد يختار الجنود أحد الأسرى ليُعيَّن "شاويشًا" على البقية، فيتولى إدارة المعتقل ومراقبة المعتقلين، ويُجبَر على معاقبة رفاقه إذا ما أخلّوا بالنظام أو تسببوا بإحداث الفوضى، إذ يُطلب منه أن ينوب عن الجنود بضرب المخالفين، وحين يُبدي رحمة أو تعاطفًا يظهران في تهاونه بتطبيق العقوبات فإنّه يُعنّف ليقسو أكثر. وفي أحيان أخرى، ولغير ما سبب محدد، يُجبر المعتقلون على ضرب بعضهم البعض. 

يقول الصحافي محمد صفا الذي اعتُقل حين حوصرت قريته في الجنوب اللبناني عام 1982: "بالصدفة حصلت على قلم عتيق لم يقع تحت أنظار المفتشين والمخبرين، بقي الورق الذي لم أنل قصاصة صغيرة منه رغم جهودي المضنية، 'ماذا أفعل؟' تساءلت في سري. ثم حُلّت المشكلة عندما وقع نظري على علب سجائر فارغة بين جنبات الخيمة. وهكذا استطعت أن أدوّن المعلومات والوقائع والانطباعات على عشرات من الوريقات الزرقاء، في حين عمدت إلى استعمال الرموز والإشارات خشية انكشاف أمري". وعلى هذه الأوراق سجّل صفا مشاهد يومية من داخل المعتقل، فروى قصص الأسرى الأطفال الذين ماتوا عطشًا أو مرضًا أو تحت سياط التعذيب، والأسرى المجانين الذين تمرّدوا على السجّان وقوانينه بلا وعي، والأسرى المرضى الذين كانوا إذا ما ساءت أحوالهم واشتدت مطالبتهم بالعلاج يُخرجون لأيام إلى العراء فيُقيّدون ويُضربون ليرجعوا إلى معتقلاتهم بحال أسوأ.

أُغلق معتقل أنصار قبل 33 عامًا، واستُبدلت طقوس العذاب الوحشي التي كانت تُمارس على أرضه بمساحة واسعة للرياضة والحياة، لكنّ آثاره الحاضرة في أرواح من عايشوا التجربة حريٌ بها أن تُستحضر بين حين وآخر، فهذه الصفحات من تاريخنا لن تُطوى إلّا بطيّ الاحتلال.

D88F6515-2641-4B76-9D90-9BDC22B8B5E4
منى عوض الله

محررة ومساعدة باحث لدى مشروع بحث وتوثيق الحركة الوطنية الفلسطينية.