مخيم الجلزون: نقطة مواجهة ضد مستعمرة "بيت إيل"

مخيم الجلزون: نقطة مواجهة ضد مستعمرة "بيت إيل"

31 مارس 2017
مواجهات لا تتوقف بين أبناء الجلزون والاحتلال (عصام ريماوي/الأناضول)
+ الخط -

دفنت عائلة حطاب ابنها الوحيد الذي لم يتجاوز عامه السابع عشر، بعد أن أصابته رصاصات قاتلة من جنود الاحتلال الإسرائيلي. بقيت الأم المكلومة تنادي على ولدها، طيلة ليلة كاملة، حتى فقدت صوتها، وفقدت الأمل بعودة فتاها الذي يناديه مخيم الجلزون للاجئين الفلسطينيين شمال مدينة البيرة وسط الضفة الغربية، تحبباً "أبو صالح"، لكن مخيم الجلزون يعلم أن استشهاده لن يوقف سقوط الشهداء ما دام القتلة على مرمى حجر من قلب المخيم.
أمام أنظار اللاجئين الفلسطينيين في مخيم الجلزون، تجثم مستعمرة "بيت إيل" التي تخنق المخيم وتقتل أولاده، فكانت العلاقة دوماً محكومة بالحجارة والزجاجات الحارقة "المولوتوف" من قبل أولاد المخيم، وبالرصاص من قِبل جنود الاحتلال والمستعمرين، ولم يستطع أولاد الجلزون أن يعيشوا جنباً إلى جنب مع المستعمرة، ولم يستطيعوا اللجوء إلى الحياد، فكان المقابل دماء تُنزف يومياً، ومعتقلين، وجرحى، في مشهد شبه أسبوعي.
مساء الخميس الماضي، استُشهد الفتى محمد حطاب، وأصيب ثلاثة من رفاقه إصابات بالغة برصاص الاحتلال، على المدخل الجنوبي لمخيم الجلزون، حيث شارع واحد يفصل بين المخيم والمستعمرة، ليصل عدد قافلة شهداء الجلزون إلى 33 شهيداً منذ الانتفاضة الفلسطينية الأولى التي اندلعت عام 1987 وحتى الآن، بينما وصل عدد الجرحى إلى الآلاف. كما رصدت اللجنة الشعبية للمخيم 40 إصابة في الجزء العلوي فقط من أجساد الأطفال والشبان، منذ أكتوبر/تشرين الأول 2015 فقط. أما عداد الأسرى فهو في ارتفاع يومي.
شارع واحد يفصل المخيم بكل معاناته وازدحامه عن بيوت المستعمرة الإسمنتية الكبيرة التي استولت على مئات الدونمات من أراضي مدينة البيرة والقرى المجاورة، وهي يبرود، عين يبرود، جفنا، دورا القرع، وبيتين. والشارع ذاته يصل وسط الضفة بشمالها، ويعمد الاحتلال إلى إغلاقه بمكعبات إسمنتية بين الحين والآخر للتضييق على الفلسطينيين، فيما يردّ أبناء الجلزون بإشعال الإطارات ورمي الحجارة وزجاجات المولوتوف، في مشهد شبه يومي، يشتد ويخفت لكنه لا ينتهي أبداً.
تقول هيثم عرار، القيادية الفتحاوية وابنة مخيم الجلزون، لـ"العربي الجديد"، إن "الاحتلال يصر على أن يجعل من هذا الشارع رمزاً لوحشيته، فهو شارع الخطر، بكل معنى الكلمة، فمن يسلم من اعتداء جنود الاحتلال، يتربصه رصاص المستوطنين، وجميع من يمر من الشارع في مرمى النيران، وتحديداً طلبة مدارس المخيم".
مخيم الجلزون، هو المخيم الوحيد في الضفة الغربية الذي يتاخم مستوطنة، ولا يبعد عنها سوى أقل من 200 متر، وبإمكان الواقف أمام أحد المحال التجارية للمخيم الواقعة في مدخله الجنوبي، أن يطيل النظر للمستعمرة، ويراقب السيارات وهي تمشي في شوارعها المعبّدة، والمستعمرون يتنقلون بين البنايات الإسمنتية الكبيرة، أو كيف تزيد البنايات طابقاً أو تنبت بناية جديدة، فالمستعمرة عبارة عن مدينة بكل ما تحمله الكلمة من معنى.
مستعمرة "بيت إيل" كانت عبارة عن مقر للحاكم العسكري البريطاني، وبعد زوال الانتداب البريطاني استلمها الجيش الأردني كقاعدة لجنوده، وعند احتلال الضفة الغربية المحتلة عام 1967، استولى عليها الاحتلال كقاعدة لجيشه للسيطرة على وسط الضفة الغربية، فضلاً عن أنها باتت مستقراً للإدارة المدنية الإسرائيلية التي تسيطر على شؤون الأراضي الفلسطينية المحتلة. وفي عام 1977 تحوّلت إلى مستعمرة وتوسعت بالاستيلاء على أراضي الفلسطينيين، وبات المستعمرون اليهود يقصدونها للسكن من كل أنحاء العالم. تقول عرار: "ليس سراً أن سارة زوجة رئيس حكومة الاحتلال، بنيامين نتنياهو، تملك بيتاً في هذه المستعمرة، التي تزداد وتكبر يومياً، ويقتل ساكنوها شباب المخيم".


الخطر الأكبر يعيشه طلاب مدرستي وكالة الغوث "الأونروا" في المخيم، للذكور والإناث، إذ يفصل المدرستين أقل من 200 متر عن المستعمرة، ويخضعون لأجواء يومية من الرعب. كلا المدرستين يعود تاريخ بنائهما إلى مطلع خمسينيات القرن الماضي، أي قبل احتلال الضفة الغربية، لكن اليوم حياة أكثر من 2200 طالب وطالبة ما دون 15 عاماً، تخضع لخطر يومي.
وفي هذا الشأن، تقول عرار: "نحن نتحدث عن مدرستين متاخمتين للمستعمرة، يعيش الطلاب تحت تهديد دائم من انتقام المستوطنين من أول النهار وحتى نهاية اليوم المدرسي، بينما يقتحم جيش الاحتلال ساحات المدرستين بشكل دائم". لكن الاقتحام لا يمر مرور الكرام، إذ يتحول الطلبة من حمل حقائبهم المدرسية إلى حمل الحجارة لصد الاقتحام، بشكل يؤكد في ذهن الاحتلال بشكل دائم أن المخيم لا يهدأ.
تشرح عرار كيف تحوّل ترميم المدرستين وإضافة طابق واحد لإحداهما، إلى محل مفاوضات بين وكالة الغوث والاحتلال الإسرائيلي، لم تنجح إلا بعد تدخّل وزارة الخارجية الأميركية قبل ست سنوات، وحينها سمح الاحتلال بإضافة طابق واحد للمدرسة. وتضيف: "تم ترميم المدرسة وإضافة طابق لمدرسة الذكور، لكن بشرط ألا تكون هناك أي نوافذ في الجهة المقابلة للمستوطنة، وهذا ما وافقت عليه وكالة الغوث التي سايرت الشروط الإسرائيلية، وبنت صفوفاً مدرسية لا يطل أولاد المخيم من نوافذها على المستوطنة، فضلاً عن تنفيذ شرط آخر وهو إبقاء الكشافات الضوئية مضاءة طيلة الليل في ساحات المدارس، خوفاً من تسلل فلسطينيين عبر المدرسة إلى المستعمرة". وتوضح عرار أنه "بعد أن نجحت المفاوضات التي استمرت عشر سنوات بتدخّل أميركي، وافقت الوكالة على شروط الاحتلال، فبات لدينا الآن غرف مدرسية لا يدخلها الضوء ولا الهواء، ومدارس محاطة بأسلاك شائكة، وبإضاءة ليلية دائمة!". التضييقات على المدارس لم تقف عند هذا الحد، بل تجاوزتها إلى منع أحد موظفي وكالة "الغوث" للطلاب من تعليق "مفاتيح العودة" في المدرسة، حسب ما تؤكد عرار.
طلاب مدارس الجلزون هم الهدف الأول لرصاص الجنود والمستوطنين، وباتت عواقب اللعب والمزاح وخيمة، كما تقول عرار، إذ أصيب الطفل عطا محمد عطا شراكة برصاصة تسببت بشلل رباعي كامل في جسده، قبل ثلاث سنوات، عندما لم ينجح بتلقف حقيبته المدرسية من أصدقائه، ووقعت وراء سور المدرسة، لتعاجله رصاصات الجنود حين قفز عن السور. تشرح عرار أن "المدارس تقع جنوب المخيم حيث المستعمرة، وهناك نقاط لا يبعد فيها سور المدرسة وبعض بيوت أهالي الجلزون أكثر من 100 متر عن المستعمرة".
يزدحم المخيم ليس فقط بساكنيه الـ16 ألف نسمة، وحسب، بل بصور الشهداء والأسرى على جدران بيوت المخيم، التي زادت مساء الخميس الماضي، صورة للشهيد حطاب، إلى جانب صور شهداء آخرين، منهم الطفل أحمد شراكة (13 عاماً) الذي استشهد في أكتوبر/تشرين الأول 2015 وهو يضرب الحجارة من مقلاعه على الجنود، ليكتشف الأطباء في المستشفى أنه كان يحتفظ بكيس من البطاطا "الشيبس" في جيبه، في مشهد مؤثر لبراءته وجرأته في آن معاً، وصورة أخرى للشهيد فارس البايض (16 عاماً) الذي استشهد متأثرا بإصابته بالرصاص المباشر في رأسه نهاية 2016.
يتحدث رئيس اللجنة الشعبية في المخيم، محمود مبارك، لـ"العربي الجديد" عن الوضع في المخيم، وهو يتابع بقلق بالغ الوضع الصحي لثلاثة شبان أصيبوا بالرصاص مع الشهيد حطاب، وتصف المصادر الطبية في مجمع فلسطين الطبي في مدينة رام الله حالة اثنين منهم بأنها بالغة الخطورة. يشير مبارك إلى أن "المخيم يتعرض، كما كل مخيمات الضفة، لهجمات كبيرة من الاحتلال الإسرائيلي، إذ لا يمضي يوم من دون مواجهات، ولا تمضي ليلة من دون اقتحام قوات الاحتلال للمخيم واعتقالها لأبنائه".
ويوضح أن "المخيم يتعرض للاقتحام الليلي بمعدل خمس مرات أسبوعياً، فيتم اقتحام المنازل وتخريبها واعتقال الأولاد والشبان بتهمة رمي الحجارة أو التصدي للاحتلال، لكن آخر تجاوزات الاحتلال هي زراعة أجهزة تنصت في المنازل وكاميرات في المخيم، بصورة سرية، نعثر عليها بالصدفة". ويلفت إلى أنه "قبل شهر تم اقتحام منزل أحد النشطاء في المخيم، وبعد اعتقاله اكتشف الأب أن هناك أجساماً صغيرة جداً تم تثبيتها في المنزل، تبيّن بعد فحصها أنها أجهزة تنصت، إذ تم اقتحام المنزل ووضع العائلة كلها في غرفة واحدة ومنعها من مغادرتها، ما مكّن الاحتلال من زرع ما يريد من أجهزة تنصّت صغيرة الحجم في المنزل". ويشير إلى أن الأمر نفسه تكرر حين اكتشف شبان كاميرات صغيرة الحجم تم تثبيتها في مواقع عدة في المخيم، لمراقبة الأهالي.
ولم يترك الاحتلال والمستعمرون أي وسيلة إلا واستعملوها لجعل حياة أهل المخيم لا تطاق، فإلى جانب ضيق المساحة في المخيم الذي يكبر عدد سكانه يومياً، يتحايل الناس على ضيق المساحة ببناء المزيد من الطوابق للأبناء الذين يكبرون ويتزوجون، فيما تجتهد حكومة الاحتلال بالاستيلاء على المزيد من الأراضي المتاخمة للمخيم لخنقه، فضلاً عن إكمال بناء جدار حول المستعمرة يأمل سكانها أنها ستصد عنهم حجارة أولاد المخيم وغضبهم.