محنة الإسلاميين

محنة الإسلاميين

22 نوفمبر 2014
+ الخط -

ليس ثمة أدنى شك في أن اللحظات التي ميّزت سقوط أنظمة الحكم في تلكم المدة الزمنية المتقاربة، واكبها نوع من الذهول والغرابة، "كأن الفرج حين أتى، انبرى مرة واحدة"، فحتى شعوب المنطقة طرأت عليها تعديلات قطعت، بموجبها، مع ما كان يمنعها من حواجز وخوف، إذ خرجت تردد بلسان واحد كلمة ارحل، الشعب يريد الحرية، الشعب يريد إسقاط النظام.

كان من تداعيات ذلك أن أُسقطت أنظمة، وتم إحراز مكتسبات عديدة في المناخ السياسي العام، في القوانين، في الآليات الديمقراطية المستعملة، وأساساً في التجديد الحاصل، سواء على رأس هرم السلطة، أو في تجديد النخب السياسية، عبر تصدّر التيار الإسلامي واجهة الأحداث. 

لم تكتمل حتى دورة صغيرة على هذا التوقيت، وعلى أبعد تقدير في حدود السنتين تقريباً، حتى بدا التاريخ وكأنه راجع إلى الخلف، حيث بدا جزءاً من الإحساس العام، وكأنه يحنّ إلى اللحظات التي، وإنْ ميّزتها "الديكتاتورية والقمع والتحكّم"، إلا أنها، وعلى الأقل، كانت تتميّز بنوع من الاستقرار الظاهري، وبنوع من الأمن والأمان.

مرد ذلك ربما، وفي جزء منه، إلى عدم قدرة الأحزاب "المسماة إسلامية"، والتي تم وضع الثقة فيها بالكامل، على تحقيق الطموحات والشعارات المرافقة للثورة، إذ يمكن اعتبار أن هذه التيارات لم تكن محظوظة بالكامل، لكونها أخذت الحكم في التوقيت الخطأ، في ظرفية كان فيها حظ "العاطفة والانفعال" كبير، حيث تم وضعها في موقع تحقيق جزء كبير من الطموحات والشعارات التي يُنادى بها في الشارع.

ففي حجم الإنجاز المُحَقَّق (إسقاط النظام) وقيمته، كان على الحركات الإسلامية أن تُقْدم على إنجازات كبرى، يتحقق فيها "مجتمع العدل والعدالة الاجتماعية والكرامة" دفعة واحدة، وهو ما اعتذرت عن تحقيقه الأخيرة، إذ ولمجُرد انطلاق هذه الحركات من المرجعية الإسلامية، كان الاعتقاد، "الخطأ السائد"، يقول بإمكانية أن تقدم هذه الحركات الحلول للمشكلات الاجتماعية الحاصلة (الإسلام هو الحل)، في تجاهل تام للمنطق، ولميكانيزمات التغيير والإصلاح، وثقل المهمات الإصلاحية لواقع البلاد بعد إسقاط الطواغيت. 

للاعتبار الذاتي نصيب مهم في فهم بعض جوانب العجز في المهمة التي انتُدب من أجلها هذا التيار، بالنظر إلى ضعف التجربة والخبرة ولقلة الكوادر والكفاءات، إذ الواضح أن التيار الإسلامي، ولسنوات، كان مصطفاً في صفوف المعارضة، ما مكّنه من تطوير شعارات المعارضة وخطابها، ومن تطوير آلياته وهياكله التنظيمية، كما تمكن من تقديم نماذج مستحسنة في ما يخص إعمال مفاهيم الدمقرطة واحترام القوانين والمقررات، وفي احترام نتائج المؤتمرات. على النقيض من ذلك، لم يراكم هذه التيار خبرة في جوانب التسيير وتدبير أمور الدولة، وهو ما جعل تدبيره (حين أُتيحت له الفرصة) يتّسم بنوع من الارتباك، وبنوع من التراجع عن مقولاتٍ كبرى مُسطّرة في برامجه، كما حصل مع حزب العدالة والتنمية المغربي، حين تم إسقاط شعار "محاربة الفساد" من قاموسه، وتم تعويضه بعفا الله عمّا سلف، بذريعة أنه لا يمكن مطاردة الساحرات.
من جهة أخرى، يبدو أن التيار الإسلامي، وتحت تأثير نشوة الفوز، لم يدرك أن النظام الذي تم إسقاط رأسه، لم يغادر الساحة نهائياً، إذ لا يزال أذنابه وبقاياه يفعلون فعلتهم تحت الأنقاض، في شكل لوبيات تتحكّم في جزء كبير من مقدّرات البلد، الأمر الذي كان يتطلّب نوعاً من التدبير الحكيم والمتسم بالمرونة وعدم التصلّب، وإلى محاولة تجميع كل طاقات البلد وإمكاناته في شكل تحالف وتوافق موسّع، حتى لا يُفهم أن الأمر فيه "استغلال ظرف" واستفراد والتفاف على "محصول ثورة"، بقدر ما أن للأمر علاقة "بتأمين وضع" يُراد من خلاله ضمان استفادة الجميع. وهو الأمر الذي كان يتعيّن أن يدفع في اتجاه الإبقاء على المشترك الذي يوحّد الجميع، والمتمثّل في تأمين شروط القطع مع أجواء التسلّط وإيجاد الظروف المناسبة لازدهار الحريات والدمقرطة، والتداول السلمي على السلطة، وهي مهمة يبدو أن التجربة التونسية كانت موفقة فيها إلى حد كبير، على عكس التجربة المصرية مع "الإخوان المسلمين"، حيث لم يمتلك الرئيس محمد مرسي سعة الصدر الكافية، ولم يتحلَّ بالقدر اللازم من روح التوافق في مرحلة جد حساسة، استغل فيها الجيش جزءاً من الفراغ الحاصل بتواطؤ مع بقايا النظام السابق، ومن الحاقدين على اللون الإسلامي، وبتغطية ودعم مالي إقليمي، ليتم الانقلاب على التجربة، وإرساء حكم عبد الفتاح السيسي. 
على أنه، وأمام التأثير السلبي "لمخرجات الثورة"، كما حصل في ليبيا من صراعات دموية، وفي تونس من اغتيالات، وفي سورية من قتل للأطفال بصورة بشعة، وفي مصر من مآسي ميدان رابعة، كل هذه المشاهد أدت إلى فقدان الثورة بريقها لدى رجل الشارع العربي، بحكم أن الثورة بدت وكأنها تأكل أبناءها، وباتت ترتبط بالدم والاقتتال والتناحر أكثر من أي شيء آخر. كان من نتيجة ذلك أن بدأ يسود نوع من الحنين إلى دولة التسلّط في مقابل ما يقدّم من مشاهد إراقة الدماء ومن انفلات أمني، زد على ذلك ما بات يقدمه حالياً "النموذج الإسلامي الخطأ"، المسمى داعش، من مآسٍ، وهو يقدم على تلكم الجرائم الإرهابية والمقززة، ما جعل بعضهم يتولّد لديه نوع من الانطباع السلبي عن كل ما هو إسلامي، أو ما يرمز له.
ربما كان التعطش في السابق مرتبطاً بالرغبة في تجريب وصفة الإسلاميين في الحكم لدى رجل الشارع العربي، إذ كان الاعتقاد أن هذا التيار يمتلك وصفة الحل لجزء من مشكلات البلد، ولأوضاع التخلّف والعجز الذي ترتع فيها الأمة، حيث غالباً ما كان يتم تحميل الأنظمة والتيارات، سواء الليبرالية أو الاشتراكية الشيوعية، جل مشكلات البلد، أما اليوم فربما أضيف إلى القائمة حتى التيار الإسلامي الذي لم يستطع، بحسبهم، الاضطلاع بحقيقة المهمة التي تم تكليفه بها، وهو ما بدأ ينمي نوعاً من الإحساس، ولو على سبيل الخطأ، بأن الطبقة السياسية بجل أطيافها ليست في مستوى الحدث.

بعد شبه خيبة الأمل من النتائج المستحصل عليها في الربيع العربي، ربما نكون في حاجة إلى تطوير نوع من الخطاب "البيداغوجي"، وإلى نوع من التأهيل السياسي والثقافي الذي يجعل التغيير غير مرتبط بلحظة تاريخية، أو حدثٍ، مهما علا شأنه وكبرت قيمته، كما هو الحال مع لحظة الثورة، بقدر ما أن للتغيير منطقه، وخاضع لمسار طويل وشاق، وقد لا يشكل فيه البُعد السياسي إلا أحد واجهاته المهمة والبارزة، من دون إغفال باقي الأبعاد التربوية والثقافية الضرورية لبناء المواطن الذي من المفترض أن يمتلك قسطاً من الآليات والوسائل المعرفية التي تمكّنه من التمييز واختيار الأصلح.
على أن هذا الاختيار حين يأتي وقته لحظة الانتخابات مثلاً، لا يكون من منطلق امتلاك الأحزاب المنتخَبَة وسائل وآليات "الخلاص الكُلّي"، بقدر ما أن للأمر علاقة بربح بعض النقاط في مسارات الإصلاح، عبر ما تقدمه برامج هذه الأحزاب من مقترحات تفصيلية، وجد مقدّرة في الجوانب الاقتصادية والاجتماعية. مصطلح الأيديولوجيا بدوره ربما يمر، هو الآخر، بفترة عصيبة من تاريخه، اعتباراً لكونه لم يعد كافياً وحده لتقديم الحلول والبدائل. نحتاج في مقابل "الإخلاص الأيديولوجي" إلى أشياء لها علاقة بالصواب والمعرفة والتمكّن، أو ما يُعرف في قاموس الإسلاميين "فقه الواقع".