محمد بكريم: "السينما "صندوق اسود" للمجتمع المعاصر

محمد بكريم: "السينما "صندوق أسود للمجتمع المعاصر"

27 مارس 2019
محمد بكريم: أيُمكن لإبداعٍ أن يوصف بالتُحفة؟ (العربي الجديد)
+ الخط -

في كتابه الخامس "المرآة والصّدى: السينما والمجتمع بالمغرب" الصادر بالفرنسية، ينبري النّاقد المغربي محمد بكريم لموضوع شائك ظلّ منذ عقود طيّ النّقاشات المتشنّجة والتّناولات السّطحية التي تعود كلّما تجاوز فيلم مغربي حدود الفن ليغدو ظاهرة مجتمعية تلوكها ألسنة المواطنين العاديين ويتخاطف السياسيون - الذين لا يشاهدون الأفلام في الغالب ـ على الإدلاء بدلوهم الثّقيل فيها.

في 267 صفحة، يحلّل محمد بكريم، متسلّحا بخبرته المزدوجة كناقد افتتن بالسينما من زاوية الشّغف ومسيّر سابق احتكّ بتدبير السينما وقضاياها، علاقة المجتمع المغربي بسينماه من خلال مقاربة ثنائية المدخل: تطور السينما منذ ظهورها بالمغرب من جهة، وأبرز سمات تفاعل الطرح الموضوعي والجمالي في الأفلام المغربية مع القراءة المجتمعية من جهة ثانية. كل هذا وفق نظرة ثاقبة وصائبة لا تتوانى عن كشف المستور وفضح المسكوت عنه.

(*) لنتحدّث أولاً عن فكرة الكتاب.
ـ يُشكِّل الكتاب استمرارية للشغف بالسينما. الشغف نوع من "يوتوبيا" في أفق التقاسم والتمرير. أحبّ فعليًا هذين التعبيرين. "السينيفيلية" تتغذّى بهذا الطموح المزدوج: تقاسم المتعة، وتمرير الشغف من جيل إلى آخر. أتمنى أن يستجيب هذا الكتاب لفلسفة الحياة، التي تُحرّك ممارسة نحاول تطويرها معًا في المغرب، أي الكتابة عن الأفلام. ندرك جميعًا أن السينما ليست أرقامًا وإحصاءات فقط، بل خطاب يُرافقها، ولا يأتي من قرار إداريّ، بل من رغبة حقيقية وإرادة مستمرة.

"المرآة والصدى" يُشكِّل جزءًا من هذه الاستمرارية. هو نتاج معطى دقيق، حيث السينما المغربية تعرف ثابتًا أصبح أكثر تكرارًا منذ عام 2000، مع أفلام تصنع أكثر فأكثر حدثًا فنّيًا وسينمائيًا، هو ظاهرة من مظاهر المجتمع. أذكر "ماروك" (2005، ليلى مراكشي) الذي تجاوز السينمائيّ إلى السياسي، منذ عرضه في "المهرجان الوطني للفيلم"، واستمرّت مناقشته أشهرًا عديدة. هناك أفلام أخرى لها تأثير اجتماعي أيضًا، كـ"حجاب الحب" (2008، عزيز السالمي). أخبرتني مديرة صالة "كوليزيه" في مراكش ملاحظتها أثناء عرض الفيلم جمهورًا لم تره قبلاً. "كازانيغرا" (2008، نور الدين لخماري) هو فعليًا ظاهرة مجتمعية، متمثّلة بأعداد كبيرة من الشباب المتجمّعين معًا لمشاهدته مرات عديدة في الصالات. الذروة مع "الزين لي فيك" (2015، نبيل عيوش)، الذي دفع إلى أقصى حدّ "تعقيد" هذه العلاقة بين المجتمع المغربي والسينما. هذا فيلم تمّ حظره رغم عدم مُشاهدته في المغرب.

هذا فيلم لم يصل إلى البلد. شاهده رسميون قليلون في مهرجان "كانّ"، فمُنع مباشرة. اخترتُ "الزين لي فيك" رمزًا لهذه العلاقة الإشكالية، وأخذت صورة من مشهدٍ أحبّه غلافًا للكتاب، تظهر فيه الممثلة لبنى أبيدار وهي تدقّ على باب منزل تقليدي. بالنسبة إليّ، هذا يُلخِّص علاقة المجتمع بالسينما: هل سيُفتح الباب؟ وإن يُفتح، أبشكل تامّ أم مواربةً؟ تؤدّي أبيدار دور فتاة ليل، تزور والدتها وتعطيها مالًا، فتقول لها والدتها: "لا تأتي إلى هنا بعد اليوم. سيراك الناس، وسيتحدّثون عنا بالسوء مجدَّدًا". بالنسبة إليّ، هذا رمز لعلاقة المجتمع بالسينما، واستشراف مذهل لمصير الفيلم. لكن في الوقت نفسه أردت تحية الممثلة، بعد المضايقات التي تعرّضت لها.

(*) يستحضر عنوان الكتاب أيضًا ذوقك لصيغة التناقض الظاهري، فالمجتمع والسينما لا يمكن إلا أنّ يكونا في علاقة تناقض في نهاية المطاف.
ـ من الأشياء التي ساهمت في نشأة فكرة الكتاب جملة لإدغار موران: "مشروعنا هو إضاءة السينما من المجتمع، وإضاءة المجتمع عبر السينما". هكذا أدافع في الكتاب عن فرضية أن السينما "صندوق أسود" للمجتمع المعاصر. عندما تعجز العلوم الاجتماعية عن تفسير ظاهرة ما أو فهم المجتمع، ينبغي عليها اللجوء إلى الإنتاج الخيالي، الذي يمثّل عصرنا على أفضل وجه، وهو السينما.

أنسب مثلٍ على ذلك يأتي من أميركا. لا يوجد أفضل من أفلام الغرب، ونوع "فيلم نوار" للقبض على روح المجتمع الأميركي. بالنسبة إلى المغرب، أجد أن أفلامًا عديدة تتناول المجتمع المغربي أكثر من علم الاجتماع. أفلام تطرح أسئلة كبيرة تعبّر (صراحةً أو ضمنيًا) عن مخيال مجتمعنا، وتتطرّق إلى مواضيع أتناولها في الكتاب، كقضية المرأة وأفلام "سنوات الرصاص" والثقافة الأمازيغية. الفصل الأخير مفتوح على قضايا سينمائية مغربية كالسيناريو. إشكالية تُعالَج في الجامعة أو المهرجانات.

(*) هذه إشكالية يتم التطرق إليها عمومًا عبر نوع من الاستسهال، وتُلخِّص أمراض السينما المغربية كلّها في السيناريو.
ـ حتى على المستوى الفني، يُطرح سؤال: أنحتاج إلى ورشة سيناريو لتكوين سيناريست، بينما كلّ ما يُمكن فعله فَتح العيون على المجتمع؟

أثناء توجّهي بالسيارة إلى مراكش ذات مرّة، استمعت إلى أغنية "دمليج زهيرو" للمرحوم التولالي، التي تُشكّل سيناريو قائمًا بحدّ ذاته. في بدايتها، يلتقي الراوي بامرأة فيتواعدان على لقاء آخر، لكنه يخشى ألّا تأتي. لطمأنته، تهدي إليه سِوارًا. الحافز الدرامي: يفقد الراوي السِّوار، فيهيم في المدينة بحثًا عنه. الوضع النهائي: تعثر شابات على السِّوار، فيُصبحن همزة وصل بين العشيقين. في الأغنية حكيٌ مكتوب بشكل جيّد، وتفاصيل وأوصاف لأزقة فاس. رمز الدلالة: يعثر البطل على حبيبته في شارع مليء بدور السينما.

أختم كتابي بسؤال: هل هناك تُحفة في السينما المغربية؟ أسأل عن مفهوم التُحفة. أول إشكالية تتمثّل بترجمة الكلمة الفرنسية "شي ـ دوفر" إلى اللغة العربية.

(*) شاركتُ في نقاش مثير للاهتمام معك حول أصل كلمة تُحفة.
ـ هناك تساؤل حول مدى إمكانية نعت إبداعٍ ما بتُحفة في ثقافتنا. يسود اعتقادٌ أن الإبداع الوحيد هو الإلهي، ويتجسّد في النص المقدّس، وكل ما يصنعه الإنسان غير مُكتمل. سألتُ أصدقاء نقاداً عن رأيهم بتُحفة السينما المغربية. لن أخبرك الإجابة، فهي في الكتاب. اخترتُ، بفضل الردود، أفضل 10 أفلام في تاريخ السينما المغربية (1958 ـ 2017).

(*) إحدى الخصائص المميِّزة للكتاب استرشاده بالشغف. فيه اختيارات من السينما التي تُفضّلها من دون عقد، وأهمها سينما مومن سميحي، وهو أحد السينمائيين المغاربة القلائل المثقفين، ما يجعل فكره نادرًا وثمينًا بالنسبة إليك.
ـ فعلاً، إنه نادرٌ وثمين. أحبّ هذا التعريف. لفترة طويلة، ظلّ جيلي يشعر بالحسرة إزاء الفيلم المغربي. نشأنا على السينما الدولية، الأميركية خاصة، التي كانت تشتغل جيدًا في المغرب، نظرًا إلى وفرة الصالات حينها (52 صالة في الدار البيضاء وحدها). هناك السينما المصرية والهندية، لكن عند الوصول إلى مرحلة معينة، وصفها إدغار موران بفترة "التهام الأفلام"؛ لما حان وقت الانتقال إلى مرحلة "السينيفيلية"، في سبعينيات القرن الـ20 عبر الأندية السينمائية، لم تكن هناك أفلامٌ مغربية.

أتذكّر أنّ أحد الأفلام القليلة المتاحة لـ"جامعة الأندية السينمائية" كان "ألف يد ويد" (1973) لسهيل بن بركة. شرّحنا مناحيه كلّها، وحلّلناه سياسيًا حتى الاستنزاف. فكّكنا تطوّر الألوان، وكلّ شيء فيه. مومن سميحي كان طيلة هذه المدة خارج الحقل. سمعنا عن أفلامه، لكننا لم نكن نمتلك بعد أدوات الغوص فيها. باكورته "الشركي أو الصمت العنيف" (1975) بالنسبة إليّ أحد المعالم الرئيسية في السينما المغربية في تلك السبعينيات، التي أصفها في الكتاب بـ"عقد المؤلفين"، لظهور مؤلّفين منتجين، كـ مومن سميحي ومصطفى الدرقاوي وأحمد بوعناني وأحمد المعنوني. سميحي من جيل صانعي الأفلام الذين سيحملون السبعينيات بفضل "الشركي"، الذي يتيح منذ عنوانه وترجمته إلى اللغة الفرنسية إمكانية وجود قراءات محتملة عديدة.

في الواقع، التعبير المناسب لوصف سينما سميحي هو بالضبط: مقترحات سينمائية، وخاصة أنه يصل إلى السينما بمعارف مهمّة جدًا، حصل عليها من رولان بارت وجاك لاكان. جاء إلى السينما بأحدث أدوات العلوم الاجتماعية في عصره. بالإضافة إلى كونه راسخًا في الثقافة التقليدية، بحكم ترعرعه في هذه المدينة الكوزموبوليتية، التي كانتها طنجة في فترة ما. كلّ هذا حاضر في سعيه. في فيلمه الأول، هناك ثنائية التقليد ـ الحداثة، التي طوّرها لاحقًا في أفلامه التالية، وخاصةً في ثلاثية الخيال الذاتي ("العايل" عام 2005، و"عذارى وسنونو" عام 2008، و"الطنجاوي" عام 2013). فيها، يعود إلى هذه الخلفية الثقافية والفكرية كلّها. ما يُعجبني فيه أنّ لديه كرمًا. يحبّ الحديث عن أفلامه والسينما، وخاصة المصرية التي نشأ فيها. إنه ثمرة ثقافة غنية ومتنوّعة بمكوّناتها العديدة. لذا، عندما يتحدث عن السينما، يجلب معه هذا البعد كلّه.

أقول لك بصراحة: أنا فخور بمقابلة أجريتها معه ونشرتها في الكتاب.

(*) هناك أيضًا فكرة مُثيرة جدًا: غياب شخصية البطل في السينما المغربية. إنها من طينة الأفكار التي يشعر بها المرء، ولكن يستعصي عليه التصريح بها، والتي تضيء جانبًا أساسيًا من مخيال المجتمع المغربي.
ـ تنتمي هذه الفكرة إلى المسكوت عنه، السياسي والمجتمعي، وخاصة أنه يمكن قراءتها في ضوءٍ آخر مع وصول لا البطل فقط، بل الأبطال الخارقين. هناك نقاش يَهزّ السينما الدولية اليوم، بينما لم نصل نحن بعد إلى مرحلة البطل. فريد بوغدير لفت انتباهي إلى هذه الحقيقة، فناقشتها معه. الناقد والمخرج السينمائي التونسي شارك في عدد من مجلة "سينما أكسيون" (العدد 14)، مهمٌّ للغاية في تاريخ النقد المغاربي، كُرِّس للسينما المغاربية. بوغدير كتب عن السينما المغربية، مُشيرًا إلى التشاؤم الذي يميّزها. لكني أعتقد أنه ذهب بعيدًا، لأنه مرّ إلى جانب الفيلم الذي نحتفل به اليوم، أي "أحداث بدون دلالة" (1974) لمصطفى الدرقاوي. جذبتني الفكرة، ففكّرت بها طويلًا.

سأخبرك ما حدث عندما كنت أقدّم لطلابي الأفلام الرائدة في السينما المغربية. كنا نواجه الوضعية الأولية مع الوضعية النهائية في حكيها. مثلاً، في "الابن العاق" (1958) لمحمد عصفور و"وشمة" (1970) لحميد بناني، البطل يصطدم بالحائط. يتمّ شنق الأول لأنه عاق، والآخر طفل يتيم، ينمو في الطبيعة رفقة متشرّدين. يرتكب عملية سطو يتعرّض بسببها لحادث سير قاتل. تتأثّر كلّ سينما تلك الفترة بهذا النوع من النهايات. لكن الدالّ الأكثر هو أنه حتى الأجيال الجديدة، التي تغذّت على قصص "سوبرمان" وباقي الأبطال الخارقين، تعيد إنتاج مأزق البطل المضادّ في أعمالها السينمائية. ربما لأن المجتمع المغربي يقبل بطلًا واحدًا فقط، ذاك الذي يحتلّ شاشات الإعلام كلّها.

هذا نقاش يقود إلى أسئلة سياسية وأنثروبولوجية، وممكن سحبه على مسألة النجوم في الفنّ. هل سمحت الأغاني والروايات، وغيرها من النتاجات الرمزية، بظهور النجم؟ أحيانًا، يحلو لي الاستشهاد بحقل توجد بينه وبين السينما جسور عديدة، وهو الرياضة. في الرياضة المغربية ظهر أبطال كثيرون، لكنهم إما اختفوا فورًا، وإما صاروا ضحايا التشهير أو الشائعات أو النسيان. هذا جديرٌ بالتأمّل.

المساهمون